المتلاعبون بالدستور

المتلاعبون بالدستور

22 أكتوبر 2021
+ الخط -

يثير ما حدث ولا يزال في تونس، منذ تجميد الرئيس قيس سعيّد دستور2014، وسيطرته على كل السلطات الأخرى في يديه، حالة من القلق الدائم، وهو المسار الذي بدأه في 25 يوليو/ تموز الماضي، بتجميد مجلس النواب وتفعيل الفصل 80 من الدستور، بمبرّر وجود الحالة الاستثنائية، وتجاهله الشروط الأخرى الواردة في النص، غير عابئ بإهدار الدستور، ثم إصداره في 22 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) الإجراءات التي جمع بموجبها السلطتين، التنفيذية والتشريعية، بين يديه. ويذكّر هذا بإجراء الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، تعديلات دستورية في 2019، ينتهك الأساس القانوني والدستوري الذي وصل من خلاله إلى السلطة، ليطيل السيناريو الجديد إمكانية استمراره إلى 2030.

وللمفارقة، حظي كل من الدستوريْن بأغلبيةٍ شعبيةٍ في العام نفسه، ولم يتجاوز تطبيقهما كلا منهما أربعا وسبع سنوات على التوالي. وفتح دستور تونس الباب كاملا للحقوق والحريات المختلفة، وأضاف مساحة من التوازن السياسي بين السلطتين، التشريعية والتنفيذية. ولم يتوقع أشد المتشائمين السيناريو الذي قام به الرئيس التونسي الذي يأتي من خلفية مدنية، والمفارقة كونه أستاذا للقانون الدستوري، لا من خلفية عسكرية تؤمن بالأوامر والتعليمات ومفهوم السمع والطاعة، وهو ما لم يجرؤ عليه الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، المحسوب على النظام القديم.

حالة قيس سعيّد والسيسي في انتهاك الدستور ليست الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة في العالم العربي

حالة سعيّد والسيسي ليست الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة في العالم العربي. سبق أن فعلها في مصر الرئيس الراحل أنور السادات بتعديل الدستور عام 1980، بما يفتح المدد الرئاسية إلى ما لا نهاية، وهو ما لم يستفد منه، بل استفاد منه خلفه الرئيس حسني مبارك الذي استمر في السلطة ثلاثين عاما. وكان الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الراحل محمد مرسي بداية لغضب شعبي، انتهى بتظاهرات 30 يونيو، الأمر الذي استغلته المؤسسة العسكرية لإقصائه من السلطة، وتنفيذ سيناريو 3 يوليو المعروف.

وللأسف، دأب قادة ورؤساء عربٌ كثيرون على إهدار الدستور الذي يعدّ الوثيقة الأساسية الحاكمة للعلاقة بين السلطات، والتي تحدّد حقوق كل منها تجاه الأخرى وواجباتها، وحقوق المواطنين تجاه السلطة. بما يخالف الوضع الطبيعي الذي اعتدنا رؤيته في بلدان العالم المتقدّم، كما حدث في الولايات المتحدة في عهد ترامب، بمحاولة إهدار نتيجة الانتخابات الرئاسية، ووقوف الأغلبية، بما فيهم الجمهوريون، ضد هذا المسار.

لن يحدُث تقدّم في بلداننا العربية طالما استمر نظام الحاكم الفرد، والذي لن يستطيع تحقيق أي نهوض اقتصادي أو اجتماعي، في ظل غياب الالتزام بنصوص الدستور

ودائما ما يتم إهدار الدستور بمقولاتٍ فارغة المضمون لتبرير الاستبداد، بهدف تغيير الأسس الرئيسية التي قام عليها الدستور، بما يؤدّي إلى تهميش السلطات الأخرى وجمع السلطات كلها بين أيدي الفرد الملهم. من هذه المقولات أن" الدستور ليس قرآنا"، أو أن الدستور "صيغ في ظروف خاصة"، أو بتبريره بممارساتٍ معينةٍ لطرفٍ سياسيٍّ ما، بينما واقعيا يأتي التعديل ملبيا رغباتٍ كامنةً في ذهن الحاكم الديكتاتور، فالسلطة جذّابة، إلى حد لا نهاية له، لا ترى أنه من الضروري أن تتقيد برقابة سلطة أخرى، فلا صوت يعلو على صوت الرئيس، وهو ما لن يستجيب له النظام الدستوري السابق، في الحالتين التونسية والمصرية .

ويثير هذا الأمر، من جانب آخر، النظرة التي يتبنّاها الرئيس الجديد لنفسه، أو يسعى حواريوه في أجهزة الإعلام والأجهزة الأمنية التي تريد تحقيق مصالحها الخاصة إلى ترويجها، أنه دائما المنقذ للشعب، والذي سيخرج البلد من الهاوية ويحارب الفساد ويصل إلى الاستقرار. وهو ما يبرّر التضحية بنصوص الدستور التي تقيد إرادة الرئيس الذي يرى نفسه فوق السلطات، ولذلك لابد من تصحيح الأوضاع بهندسة نظام سياسي جديد يتلاءم مع رؤية الرئيس الملهم، فالغاية تبرّر الوسيلة.

الأمر الثاني أن هذه التغييرات، والتي رفعت لواء الإنقاذ من جماعة الإخوان المسلمين وحركة النهضة في دول الربيع العربي، وخصوصا مصر وتونس، والتي سادتها الرغبات الانتقامية، في البداية، من الحركتين، ثم دارت الطاحونة ضد كل الاتجاهات والقوى السياسية الأخرى، انتهت أيضا بحصار مطلق للحريات كافة، وفتح أبواب السجون على مصراعيها في كلٍّ منهما.

دأب رؤساء عربٌ على إهدار الدستور الذي يعد الوثيقة الحاكمة للعلاقة بين السلطات

السؤال الأهم، كيف يتم انتخاب هذا الرئيس أو ذاك وفقا لنظام سياسي محدّد سلفا، وهو يعرف قواعده التي جاء على أساسها، ويتجرّأ على تغيير هذه القواعد، لكي تتناسب مع رغباته بالاستمرار في السلطة أطول ما يستحق، ويفرض هيمنته على السلطات الأخرى، التشريعية والتنفيذية، خصوصا اذا كان قدّم وعودا سابقة بأنه لن يرشّح نفسه للرئاسة، أو أنه سيكتفي بمدتين. والتحدّي الرئيسي بوجود دور أساسي للشعوب في مواجهة هذا المنطق الذي يستهين بنظامها الدستور السابق، ويبرّر لكل من رغبات مستبدّة بالوصول إلى السلطة، ثم تركيزها بين يديه.

ويتصل هذا التحدّي بضرورة الوعي الشعبي بحماية الدستور لحل أي نزاعاتٍ بين أطراف اللعبة السياسية، واستكمال بناء المؤسسات الأخرى الموكلة لهذا الدور، مثل المحكمة الدستورية واحترام الدستور والتوافق على نظام انتخابي يضمن تمثيل كل القوى السياسية ومواجهة توغل الأجهزة الأمنية في المسارين، السياسي والإعلامي.

وفي النهاية، لن يحدُث تقدّم في بلداننا العربية طالما استمر نظام الحاكم الفرد، والذي لن يستطيع تحقيق أي نهوض اقتصادي أو اجتماعي، في ظل غياب الالتزام بنصوص الدستور، وتغييب المشاركة السياسية من الأطراف الأخرى.