المبعوث الأممي إلى اليمن .. حبل السلام القصير

المبعوث الأممي إلى اليمن .. حبل السلام القصير

16 مايو 2021

مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن مارتن غريفيث في برلين (12/4/2021/فرانس برس)

+ الخط -

بدا مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، مارتن غريفيث، في آخر إحاطة له في مجلس الأمن، أكثر صدقية في عرض مآلات الجهود الدبلوماسية للمسار التفاوضي، إذ حمّل جماعة الحوثي المسؤولية الكاملة عن إجهاض جهود السلام، نتيجة استمرار مقاتليها في الهجوم على مأرب، وما ترتب عليه من تفاقم معاناة المواطنين والنازحين في المدينة. كما تطرّق إلى أزمة المشتقات النفطية الناجمة عن منع دخول سفن الوقود إلى ميناء الحديدة، وكذلك تقييد تنقل اليمنيين. وإن لم يشر في إحاطته الموجزة لتعقيدات إنسانية لا تقل أهمية في المناطق المحرّرة، تتحمل السعودية والسلطة اليمنية الشرعية مسؤوليتها، إلا أنّ أهم ما جاء في إحاطته إشارته، ولأول مرة، إلى انسداد الأفق السياسي، على عكس ما كان يسوقه دولياً طوال ولايته، مع أنّ لا علاقة لذلك بصحوة ضمير المبعوث، وإنّما لأنّه لم يعد هناك كما يبدو ما يقدمه بصفته وسيطاً بين الفرقاء اليمنيين لحلّ الأزمة، فقد رفض مفاوضو جماعة الحوثي في مسقط، لقاءه، مقابل تعاطيهم، وإن بغير إيجابية، مع المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيم ليندر كينغ، إضافة إلى أنّ تنامي سلطة الأخير، وتداخل صلاحياته في إدارة المسار التفاوضي مع صلاحيات المبعوث الأممي، وفي أحيان كثيرة على حسابها، أفقدا غريفيث مواقع تأثيره على جماعة الحوثي. كما أنّ مهامه الجديدة نائباً للأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، قد تؤثر على بقائه مبعوثاً أممياً إلى اليمن. وذلك في حال استمرار رفض جماعة الحوثي التعاطي معه، إلا أنّ المفارقة المضحكة أنّ المبعوث الذي بدا، في إحاطته، متقمّصاً روح المسيح، تجاهل حقيقةً يدركها معظم اليمنيين، من أنّ أداءه الالتفافي كان عاملاً رئيساً في تعقيد الملف اليمني، ومن ثمّ تأبيد معاناة اليمنيين، بالتوازي مع أطراف الصراع اليمنية والإقليمية.

تمثل إدارة غريفيث ملف مدينة الحديدة مثالاً حياً على سياسة الأمم المتحدة في بلدان الحروب، والتي تنتج في المحصلة وضعاً خاصاً لمدينةٍ بمعزل عن حلّ جذور المشكلة اليمنية

تولى غريفيث في 16 فبراير/ شباط 2018 منصبه خلفاً للمبعوث السابق إسماعيل ولد الشيخ، وراهن حينها مراقبون كثيرون على قدرته على تفكيك تعقيدات الملف اليمني، كونه بريطانياً، ما يمنحه ثقل بلاده العضو الدائم في مجلس الأمن، فينعكس إيجاباً على الملف اليمني، ومن ثم إنهاء الحرب. ومن جهة ثانية، لأنّ أطراف الصراع الفاعلة في اليمن، وتحديداً جماعة الحوثي والسعودية، اللتين أنهى موقفهما الرافض بعثة مبعوثين سابقين، لم تبديا اعتراضاً على ولاية غريفيث، إلا أنّ حصيلة أكثر من ثلاث سنوات لإدارة الرجل المسار التفاوضي تكشف عن دوره الكارثي في تعقيد الملف اليمني، وذلك بتجاوز جذور الصراع إلى الشرعنة لأطراف محلية في سياق الحلّ، وكذلك تصعيد قضايا جزئية على حساب القضايا المفصلية، مقابل استمرار التصعيد العسكري وتنامي الأزمة الإنسانية، بحيث تفوق المبعوث في إخفاقاته على المبعوثين السابقين، وإن كان منسجماً في مقارباته مع روح مؤسسة الأمم المتحدة في إدارتها أزمات بلدان الحروب التي ترتكز على استدامة الحرب، وتوظيفها مالياً لصالح تشغيل هيئاتها، مقابل تجزئة حروبٍ صغيرةٍ، في سياق الحرب الشاملة، ووضع حلول لها.

ربما من الصعب إيجاز مكامن الخلل في إدارة المبعوث الأممي الملف التفاوضي، والتي ألقت بظلها على الملف السياسي اليمني، وعلى مسار الصراع، بما أنتجته من مشكلات خطيرة، وربما أهمها، شرعنة نتائج الصراع، سواءً بين القوى المحلية في معسكر الحرب الواحد أو بين الأطراف الرئيسية، وبالطبع على حساب وحدة اليمن. ففي معظم التطورات العسكرية التي شهدها اليمن، ثلاث سنوات من ولاية مارتن غريفيث، والتي أنتجت كانتونات عسكرية مناطقية وطائفية، ولاءاتها للدول الإقليمية المحتربة في اليمن، موقف المبعوث الدولي من هذه التطورات، لا وسيطاً يعمل على تخفيض الصراع، وإنّما ينتظر هو الآخر نتيجة الطرف العسكري الذي سيفرض واقعاً جديداً على الأرض، لتمكينه سياسياً في النهاية عبر الشرعنة له، ومن ثم إضافة شركاء جدد إلى طاولة المفاوضات المرتقبة، وبالتالي تعقيد الملف اليمني. إلا أنّ الأسوأ من ذلك السياسة التي اتبعها المبعوث الأممي في تشعيب القضايا، من خلال مقايضة ملفات جزئية مقابل السلام.

التقدم الوحيد في تنفيذ اتفاقي استوكهولم كان صفقة تبادل الأسرى التي أجريت هذا العام مع أن الأمر لا يشكل نجاحا كبيرا

تمثل إدارة غريفيث ملف مدينة الحديدة مثالاً حياً على سياسة الأمم المتحدة في بلدان الحروب، والتي تنتج في المحصلة وضعاً خاصاً لمدينةٍ بمعزل عن حلّ جذور المشكلة اليمنية، مع إبقاء الوضع الإنساني على حاله. وهذا ما يكشفه الوضع العسكري والسياسي والإنساني في مدينة الحديدة بعد ثلاثة أعوام من اتفاقية استوكهولم، ديسمبر/ كانون الأول 2018، فقد ترتب على مقايضة المبعوث وقف هجوم التحالف العربي على الحديدة مقابل انخراط جماعة الحوثي في المفاوضات السياسية، ترتيب وضع خاص للمدينة من خلال بنود اتفاقية استوكهولم، إضافة إلى ملحق يقضي بتبادل الأسرى والإفراج عن المعتقلين، وتطبيع الأوضاع الاقتصادية ورفع الحصار عن المدن اليمنية، إلا أنّ نتائج هذه الاتفاقية التي يفخر بها المبعوث، باعتبارها إنجازاً تاريخياً، لم تحقّق أيّاً من غاياتها، بل أحدثت مشكلاتٍ عديدة، فمن جهةٍ فشلت لجنة تنسيق إعادة الانتشار في تخفيض التصعيد العسكري في الحديدة، إذ استمرت خروقات المتصارعين، ومن ثم لم تحقق اللجنة الأممية أيّاً من الأهداف التي أنشئت لأجلها، عدا النفقات المهولة لموظفيها الأمميين التي تستنزف أموال التبرّعات لليمن. ومن جهة أخرى، لم تلتزم جماعة الحوثي بتوريد موارد الميناء لحسابٍ مشترك، يصرف منه رواتب الموظفين، فيما يستمر الحصار الخانق على مدينة تعز ليقضي على فرص تعافيها، بما في ذلك استمرار إغلاق مطار صنعاء. والتقدم الوحيد في تنفيذ اتفاقي استوكهولم كان صفقة تبادل الأسرى التي أجريت هذا العام، مع أنّ مقارنة عدد المفرج عنهم الذي شمل أكثر من ألف معتقل وأسير بالعدد الإجمالي للأسرى والمعتقلين في سجون الجماعة والشرعية الذي قد يصل إلى ستة آلاف معتقل وأسير لا يشكل نجاحاً كبيراً، إلا أنّ أخطر نتائج الاتفاقية أنّ صيغة الحلّ لمشكلة الحديدة، وإن لم يكن حلاً، أطلق يد الجماعة، ليس في المدينة فقط، وإنّما في المضي بعيداً في إنتاج صيغ مشابهة لاتفاق الحديدة لمدينة مأرب، من خلال مقايضة وقف هجوم الجماعة على المدينة باتفاقية تضمن لها اقتسام الثروات مع السلطة الشرعية، ومن ثم فصل معركة مأرب عن سياق أيّ حلّ سياسي وطني شامل، أو على الأقل تكون مربط الفرس في أيّ حلّ.

السلام وإن كان مبتغى الشعوب المقهورة، فإنّه حين يكون مفرغاً من مضامينه السامية يصبح كذباً رخيصاً

تصعيد قضايا جزئية على حساب إيجاد حلّ جذري لمشكلة الصراع في اليمن، وتجزئة الحلول لم تتوقف عند إدارة ملف الحديدة ونتائجها الكارثية، إذ إنّ المبعوث الأممي الذي ظلّ يراكم فشله في دفع الفرقاء اليمنيين إلى طاولة المفاوضات، أو على الأقل تخفيض مستوى التصعيد العسكري، حصر سياسته، منذ توليه المنصب في أضعف القنوات وأسهلها، لتسويق إنجاز لا يُذكر، من خلال إشراك النساء في سلام غير موجود، بعيداً عن القضية الجوهرية التي هي حلّ جذر الصراع في اليمن. وبالطبع، بإنفاق ملايين الدولارات المرصودة للعملية الإنسانية في اليمن، إذ إنّ ما عُقد من ورش ومؤتمرات للنساء اليمنيات، بما في ذلك إنشاء التوافقيات والمنظمات، ربما يفوق كلّ الورش والندوات التي عُقدت من أجل النساء في معظم بلدان الحروب مجتمعة، ليكون السلام اللافتة الفضفاضة التي تجري تحتها نقائص تسطيح المشكلات وامتصاص الأموال.

السلام المستدام والحقيقي هو إزالة جذور الصراع وتكويناتها العسكرية القديمة والجديدة، لا إضفاء الشرعية على ما تفرضه قوة الغلبة والأمر الواقع من تكوينات، السلام الحقيقي الذي ينشده اليمنيون هو إيجاد حلول للمشكلات اليومية التي يواجهونها على الأرض من أطراف الصراع، وإجبار هذه الأطراف على قبول المسار السياسي، لا توظيف قيم السلام لتصعيد قضايا جزئية لا تخدم اليمنيين. ولذلك، على إدارة الوسيط الأممي أن تكون منسجمة مع هذه البديهيات، لأنّ السلام وإن كان مبتغى الشعوب المقهورة، فإنّه حين يكون مفرغاً من مضامينه السامية يصبح مجرد كذب رخيص.