"اللاأيديولوجيا" أيديولوجيا أيضاً
(بول كلي)
مثل أيّ حقلٍ آخر، لا يمكن تجريد السياسة من الفلسفة، بل السياسة بالذات هي من الفضاءات التي لا يمكن فهم ما يُعتمل داخلها، من تحوّلات وسجالات وصراعات وتناقضات، بعيداً من المنظور الفلسفي، خاصّة أنّ السّياسة مثل غيرها من الحقول علم، ولا يمكن فهم أيّ علم من دون رؤية فلسفية. ونستذكر هنا ما قاله مرةً أستاذ الفلسفة المغربي عزيز حدادي، إنّ "الفلسفة تأتي في الصباح، فيما العلم يأتي في المساء". الفلسفة أولاً والعلم ثانياً، لا تقليلاً من أهمية هذا الأخير، وإنما تأكيد أنّ العلم، الذي "أتى في المساء"، اشتغل بالأسئلة التي أثارتها الفلسفة قبل ذلك، حتى قبل فلاسفة الإغريق القدامى الأكثر شهرةً في تاريخ الفلسفة، ونعني اشتغالات فلاسفة الأمم الشرقيّة في الصين والهند مثلاً، واستطراداً نقول، بما أنّ السّياسة علم وإن جمعته مع الممارسة، فإنّها هي الأخرى تأتي بعد الفلسفة.
ولأنّ حديثنا عن الصلة بين ما هو سياسي وفلسفي، فإنّ أول وأكثر اسم فلسفي أهميةً يمكن أن يحضر في الذهن هو سقراط، الذي أراد للفلسفة أن تكون في الحياة، في الأرض، بين الناس، تحلل سلوكهم بأوجهه المختلفة. والسياسة، التي وصفتها الماركسية بأنّها "اقتصاد مكثّف" تغطي مساحات واسعة من انشغالات الأمم والمجتمعات، وتتغيّر صور وتجلّيات هذه الانشغالات وتتحوّل تبعاً لتطوّر المجتمعات بين حال وأخرى، لكنّ هناك منظومة من القيم تظلّ ثابتةً و"يسهر الخلق جراها ويختصموا"، إذا ما استعرنا البيت الشهير لأبي الطيب المتنبّي، كقيم الحرية والديمقراطيّة والعدالة والمساواة، ونبذ الظلم والاستغلال والعدوان والفساد ونهب الثرات، وما إلى ذلك، وحتى منظومة القيم هذه، وهي تحافظ على جوهرها، تشهد تحوّلات في مضمونها ودلالاتها، تبعاً لتطوّر المجتمعات والمعارف.
من القامات الفكرية والفلسفية التي قاربت الفلسفة السياسية، أو فلسفة السياسة، الألمانية حنه آرندت (1906 – 1975) التي كانت، هي الأخرى، واحدةً ممَّن دعوا إلى إنزال الفلسفة إلى الواقع، فلا تكون مجرّد تهويمات منفصلة عن انشغالات المجتمع أو متعالية عليها، ودعوةٌ مثل هذه تجعل من فلسفة السياسة ليست مجرّد تنظير، وإنّما هي معاينة لواقعٍ متحرّك، ليس على مستوى كل مجتمع وحده فقط، وإنّما على المستوى الكوني الشامل، ولكي نقف على التحوّلات المصيريّة التي شهدها العالم وغيّرت مساراته، لا بد من الوقوف على الرؤى الفكريّة والأيديولوجيات التي كانت بمثابة روافع (أو دوافع) لتلك المنعطفات. يصحّ هذا على نظريات مختلفة حدّ التناقض، سواء كانت في مواقع المعارضة أم حين تصبح محتكرة للعنف عندما تمسك بمفاصل السلطة.
الزعم بإمكانية النظر إلى السياسة بمعزل عن التأطير النظري – الفلسفي لا يصمد أمام الحجاج، كما لا يصمد أمام الحجاج الزعم بأنّه بوسع المشتغل بالفلسفة أو الفكر أن يكون محايداً أو غير منحازٍ إلى موقف، هو في جوهره موقف أخلاقي – سياسي مركّب، بالمعنيين الإيجابي والسلبي تبعاً للحال التي نحن بصددها، شخصاً وموقفاً، وحتى القول بـ"اللاأيديولوجيا"، هو في الجوهر موقف أيديولوجي، حتى لو لم يُطق دعاة ذلك أن يطلق عليهم وصف "المؤدلجين"، فلا يمكن مقاربة موضوعات مثل الهُويَّات، والثروة، والاقتصاد السياسي، والحرب والسلام، والبيئة والجنوسة وقضايا المرأة، وما إليها من موضوعات حيويّة تشغل العالم، من دون حمولة أيديولوجية ما، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا.
وحتى لو جرى النظر إلى السياسة بوصفها صراعاً على المصالح والنفوذ، فهذا الصراع يلزمه نوعاً ممّا نودّ وصفه بـ"الإسمنت الأيديولوجي" الذي هو، في أحد جوانبه، ضرب من الفلسفة، من أجل أن يبرّر فيه كل طرف غاياته من خوض هذا الصراع، وإضفاء طابع قيميّ – أخلاقيّ عليه. وفحص مدى صدقيّة ذلك وتحليله، ومقدار الحقيقة أو الزيف فيه، هما مهمتان فلسفيتان بامتياز، حتى لو بدا في الظاهر أنّهما يتناولان أمراً محض سياسي، فلا يمكن مقارنة خطاب شعبٍ احتُلَّت أرضه واغتُصِبت حقوقه وصُودرت السيادة الوطنية لبلاده، بخطاب المستعمر والمحتل والمغتصب، حتى لو أسبغ على هذا الخطاب مسحةً من الأخلاق والقيم، كالزعم بأنّ غاية هذا الاستعمار نقل شعب أو بلد (متخلّف) إلى ضفة الحضارة والدّيمقراطيّة، كما تفعل الدعاية الغربية في تبريرها للعدوان الصهيوني على حقوق الشعب الفلسطيني، أو كما برّرت الولايات المتحدة احتلالها للعراق، الذي دمّر المنجز الوطني العراقي الذي بُني بأدمغة أجيال من العراقيين وسواعدهم.