الكونغو الديمقراطية... صراع جيوسياسي بعباءة أزمة داخلية

20 فبراير 2025
+ الخط -

انتهت أشغال القمّة الـ38 للاتحاد الأفريقي بأديس أبابا، من دون أن تنجح في تطويق نيران الحرب المشتعلة في أكثر من رقعة جغرافية في أفريقيا، رغم تفريد مجلس السلم والأمن، أحد الهياكل المؤسّساتية في الاتحاد، جلسة خاصّة لمناقشة تطوّرات الأزمات الساخنة في القارّة، وفي رأسها الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي يوشك أن يتحوّل بمرور الأيام حرباً إقليمية تهدّد منطقة البحيرات العظمى برمّتها.

ظاهرياً، تبدو المعركة في شرق الكونغو الديمقراطية، بين الجيش النظامي ومتمرّدي حركة 23 مارس، على غرار معظم النزاعات الانفصالية، التي تشهدها العديد من المناطق في القارّة، لكن المدقّق في تفاصيل الوضع يكتشف أن النزاع (في الحقيقة) يتعدّى أنه مجرّد "مشكلة كونغولية"، كما تُروِّج ذلك جهات عديدة، نحو صراع إقليمي معقد ومتعدّد الأطراف، يدعمه كثير من الفاعلين خلف الكواليس، من دون التورّط فيه بشكل مباشر.

أضحى شرق الكونغو الديمقراطية ساحة حرب بالوكالة، ونقطة تنافسٍ جيوسياسي حادٍّ بين عدد من الدول، امتزجت فيه رواسب التاريخ بمعطيات الجغرافيا وحسابات الاقتصاد، واختلطت الدوافع الأمنية مع النزعات العرقية، فضلاً عن رغبة محتدمة لدى أكثر من زعيم سياسي لإثبات الهيمنة السياسية على الإقليم. هكذا، تحوّلت الثروات المعدنية من نعمة يُعتمَد عليها لتحريك قطار التنمية، في ربوع البلاد الشاسعة (تعادل مساحتها حوالي ثلثَي مساحة أوروبا الغربية) إلى لعنة تلتهم حاضر البلاد والعباد، ووقود لإدامة الصراع، من خلال توفير التمويل للجماعات المسلحة.

بعيداً عن الجذور التاريخية للصراع الممتدّة إلى ما قبل الاستعمار البلجيكي، مطلع القرن العشرين للمنطقة، التي حوّلت النزاع جمرة متوقّدة قابلة للاشتغال عند كلّ هبّة ريح، ما جعل المخاوف تتزايد من تكرار الأزمة الحالية لسيناريو حرب التسعينيّات؛ التي صُنّفت في قائمة أكثر النزاعات دموية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فأودت بحياة ستّة ملايين شخص، خصوصاً مع تنامي حضور دول المنطقة في أتون الصراع الدائر هناك.

اختلطت الدوافع الأمنية مع النزعات العرقية، فضلاً عن رغبة محتدمة لدى أكثر من زعيم سياسي لإثبات الهيمنة السياسية على شرق الكونغو

أتقنت رواندا (كعادتها) لعبة المراوغة، فطالما أنكر بول كاغامي أي تورط لبلاده في الأزمة الكونغولية، التي تبقى مشكلة داخلية خالصة، ونفى أي دعم لحركة 23 مارس، بالمال أو السلاح أو الجنود، قبل أن يصطدم بالإجماع الدولي، بما في ذلك خبراء مجلس الأمن، على اتهام كيغالي بالضلوع في الأحداث، ما دفع الرئيس إلى التعليق معتبراً أن "الخبراء يروون القصّة بشكل يعكس غياب الخبرة لديهم في الملفّ". لكنه اضطر أخيراً للإقرار، بعد حديثه مع وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، بتأكيده "الحاجة إلى تأمين وقف إطلاق النار في شرق الكونغو، ومعالجة جذور الصراع دفعة واحدة، وإلى الأبد".

ما فتئ الزعيم الرواندي يبرّر اهتمام حكومته بشرق الكونغو بملاحقة أنشطة "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا"، ممّن يواصلون نشر أيديولوجيا الإبادة الجماعية. كما يُعزَى اهتمام كيغالي أيضاً، وربّما في المقام الأول، وفق ما جاء في تقارير خبراء الأمم المتحدة، إلى ما تكتنزه أراضي الشرق الكونغولي من موارد معدنية (الذهب والكولتان والكوبالت...)، يتزايد الطلب عليها بشدّة في جميع أنحاء العالم، لدورها في الصناعات التكنولوجية.

اختارت بوروندي المجاورة للطرفَين (رواندا شمالاً والكونغو الديمقراطية غرباً)، توخّي الحذر مع إظهار الدعم والانحياز تجاه كينشاسا، فالآلاف من جنود بوروندي على الحدود بين البلدَين منذ سنوات، يدعمون حالياً جيش الكونغو ضدّ متمرّدي "23 مارس" ومعهم القوات الرواندية. اصطفاف يجد تفسيره في العداوة القديمة بين الدولتَين، ما جعل النظامَين يتبادلان الاتهامات بسعي كلّ منهما إلى الإطاحة بالآخر، رغم التشابه في التركيبة العرقية، مع الامتياز لعرقية الهوتو بتولي السلطة في بوروندي. ضغينة دفعت الرئيس إفاريست ندايشيمي إلى التهديد علانية، بأن استمرار رواندا في تحقيق الانتصارات، وزحف المتمرّدين من غوما نحو جنوب كيفو، يعني أن الحرب ستنتشر لا محالة.

تحاول كينيا التي ليس لها حدود مباشرة مع الكونغو الديمقراطية تسجيل حضورها، ضمن مساعي الرئيس ويليام روتو تسويق نيروبي دولة تقود منطقة شرق أفريقيا

تُفضّل أوغندا اللعب على الحبلَين، ولكن بحذر شديد، فعلى غرار رواندا نشرت قواتها في المنطقة بدعوى حماية حدودها، وقدّمت الدعم للجيش الكونغولي ضد المتمردين، مع اشتداد المعارك، خوفاً من تفوق وسيطرة رواندا التي تعني إنهاء وجودها في شرق الكونغو. لكن كامبالا، وبشكل متوازٍ، وفق خبراء الأمم المتحدة، تتعاون مع حركة 23 مارس بالسماح لهم باستخدام الأراضي الأوغندية قاعدة خلفية وطريقاً للإمداد، ما يمنحها فرصة للاحتفاظ بنفوذها مع الطرفين؛ الحكومة والمتمرّدين.

رغم البعد الجغرافي، تحاول كينيا التي ليس لها حدود مباشرة مع الكونغو الديمقراطية تسجيل حضورها، ضمن مساعي الرئيس ويليام روتو تسويق نيروبي دولة تقود منطقة شرق أفريقيا، ما يفسّر دعوته، بعد استيلاء "23 مارس" على غوما، إلى قمّة طارئة لمجموعة شرق أفريقيا، رغم انحيازه المبطّن لمواقف رواندا، ما دفع الحكومة الكونغولية إلى رفض المشاركة في القمّة، وقبلها رفض التجديد للقوة الإقليمية لحفظ السلام في شرق البلاد، إذ تساهم كينيا بـ900 جندي، بدعوى انحياز بعض المشاركين فيها.

أضحى شرق الكونغو الديمقراطية ساحة حرب بالوكالة، ونقطة تنافسٍ حادٍّ امتزجت فيه رواسب التاريخ بمعطيات الجغرافيا وحسابات الاقتصاد

لعبت جنوب أفريقيا دور حارس السلام في المنطقة، فالجزء الأكبر من القوات الإقليمية لبعثة مجموعة التنمية لأفريقيا الجنوبية (SADC) تُشكّله قوات الدفاع الوطني لجنوب أفريقيا، التي تكبّدت خسائرَ فادحة، تمثّلت في سقوط 14 جندياً بسبب المواجهات العنيفة هناك. لكن هذا الدور (حارس السلام) أضحى محلّ تهديد، مع تشدّد الرئيس سيريل رامافوزا من جهته حيال رواندا، محذّراً من دفع جوهانسبرغ إلى "إعلان الحرب". وفضلاً عن الصراع الإقليمي بين الدول، تحتفظ القوى الغربية، وبشكل خاص المُستعمِرة السابقة (بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا)، بنصيبها من الأزمة المتصاعدة، ما عرّض سفاراتها لاستهداف من المتظاهرين في العاصمة كينشاسا في الأيام القلية الماضية، احتجاجاً على تورّطها في دعم شبكات التهريب والاتجار غير المشروع في المعادن في جمهورية الكونغو الديمقراطية. نفهم طبيعة الورطة حين نعلم أن هذه الثروات المعدنية تُشكّل، وفقاً لبعض التقديرات، مصدراً رئيساً لتمويل أكثر من 100 جماعة مسلّحة في المنطقة، بما في ذلك حركة 23 مارس. كما ندرك أيضاً أن 27% من عمّال المناجم في شرق الكونغو، بحسب بيانات 2022، يشتغلون في مواقع؛ أي مناجم غير رسمية، لا تخضع لرقابة أو سيطرة الحكومة في كينشاسا، ما يجعلنا ندرك حقيقة حجم التورّط الإقليمي والدولي في الأزمة بشرق الكونغو.

أمام هذا التعقيد والاشتباك والتداخل بين المعطيات في أرض الواقع، وفي ظلّ عجز مساعي الوساطة الكثيرة، منذ اندلاع الصراع، عن إسكات البنادق من ناحية، وإمعان الإدارة الأميركية في التقوقع على نفسها، مع صعود تيّار الانعزالية الساعي وراء سراب "جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى" بقيادة دونالد ترامب، من ناحية أخرى، تتزايد المخاوف من تفجّر لغم قديم تركه الاستعمار بالمنطقة، على غرار ألغام كثيراً انفجرت لتشعل نيراناً لم يقوَ أحد على إخمادها، في أكثر من رقعة في أفريقيا.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري