الكوكب في انتظار "الشرارة"

الكوكب في انتظار "الشرارة"

19 مارس 2022
+ الخط -

لم تتحرّك أميركا "العظمى" في القرن الـعشرين سوى مرتين في خضمّ حربين عالميتين. في الأولى، عقب الاعتداء الألماني على سفينة لوزيتانيا في 7 مايو/ أيار 1915، الذي قُتل فيه 1198 شخصاً. وفي الثانية في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1941، حين هاجم اليابانيون بطائرات انتحارية (كاميكاز) بيرل هاربور في جزر هاواي، حيث لقي 2403 أميركيين حتفهم. في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، كان الانخراط الأميركي "لا بدّ منه" للثأر من الألمان، وردّهم عن شواطئ البلاد، قبل العودة إلى العزلة الداخلية. وفي الحرب الثانية (1939 ـ 1945)، خرج الجندي الأميركي ولم يعد، بل انتقل عبر العالم، مكرّساً حضوراً سياسياً فاقعاً، وانتشاراً عسكرياً في كل زوايا الأرض، بلغ، وفق ما هو معروف، أكثر من ألف قاعدة خارج الولايات المتحدة، ينتشر فيها أكثر من 165 ألف جندي.

هذا التمدّد جعل من الأميركيين مطلوبين ومرفوضين في آنٍ. في كل دولةٍ تقريباً، هناك من يؤيدهم ومن يرفضهم، لكن الجميع غير قادرين على التصرّف بمعزلٍ عنهم. في أوكرانيا، طالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي مراراً بفرض منطقة حظر جوي فوق بلاده، لمنع الغارات الروسية ضدها. في المنطق، يقول زيلينسكي ما هو صحيح، لأن الروس فشلوا في التوغّل برّاً، مكثفين الغارات الجوية والصواريخ الباليستية التي يُفترض أن تغطّي على العجز الأرضي. في المقابل، من المنطقي أن يرفض الأميركيون فرض منطقة حظر جوي، لأن كلفته الميدانية لن تقتصر على أوكرانيا أو أجزاء محدّدة من العالم، بل سينتشر حرفياً من شرق الكوكب إلى غربه. الآن، اتجه زيلينسكي إلى "خطّة باء"، أي استقدام أنظمة جوية تسمح للأوكرانيين بضمان تكافؤ نسبي مع السلاح الجوي الروسي.

السؤال هنا: هل أحسن الأميركيون بعدم التدخل بفرض منطقة حظر جوي، أم أنهم ينتظرون "ساعة صفر" ما؟ في الحرب العالمية الأولى، لم يكونوا ليتدخلوا لولا سفينة لوزيتانيا، وفي الثانية ظلّوا في منأى عن ساحات القتال، حتى اعتداء بيرل هاربور. في الأولى، رفضوا مجرّد التفكير في الانخراط في معارك السوم وغاليبولي وغيرهما، وفي الحرب الثانية، لم يتمكّن رئيس الوزراء البريطاني، وينستون تشرشل، من الحصول على دعم مباشر من الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، على الرغم من سقوط باريس وأمستردام وأوسلو وبروكسل وغيرها بأيدي القوات الألمانية النازية. اكتفى الأميركيون بدعم البريطانيين، والحلفاء عموماً، بالإمدادات الإنسانية والعسكرية. وعلّلوا عدم المشاركة بداية في الحربين باحتمال تعرّضهم لغضب شعبي رافض خروج قوات أميركية إلى المقلب الآخر من الأطلسي، لكن "الشرارة" وحدها سمحت للأميركيين بالانخراط العميق في الحربين، بل والدعوة إلى التجنيد والقتال "من أجل حرية العالم".

الآن، هل يبحث الأميركيون عن "شرارة" ما لتدخلٍ عسكري مباشر في أوكرانيا؟ لا يمكن تأكيد ذلك، أقله في الوقت الحالي، إلا أنه يُمكن ملاحظة مؤشّرات كثيرة حول تزخيم فكرة "احتمال حصول تدخّل أميركي". تتمحور الفكرة الأولى، والجوهرية، على طغيان مصطلح "الحرب العالمية الثانية" بقوة في الإعلام الأميركي، وعلى ألسنة المسؤولين، بدءاً من الرئيس جو بايدن. وهو مصطلح مكثف، خصوصاً مع تشبيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالزعيم النازي أدولف هتلر. الحرب العالمية الثانية في وجدان النظام الأميركي، لا الشعب، هي نقطة انطلاق لـ"اليانكيز" إلى أرجاء الكوكب. أما الفكرة الثانية، فمرتبطة بارتفاع أسعار النفط في الداخل الأميركي، وتحميل بايدن مسؤولية هذا الارتفاع إلى بوتين شخصياً. صحيحٌ أن روسيا غير ألمانيا في الحربين الكبرييين، إلا أن "الشرارة"، التي قد تندلع بحدثٍ دمويٍ يُقتل فيه أبرياء، ستؤدّي إلى اندفاع "الضحية" لمواجهة "جلّادها"، وسط أجواء مليئة بـ"الحماسة الوطنية". علاقة رئيس ديمقراطي بالثأر؟ وودرو ويلسون كان ديمقراطياً في الحرب الأولى، فرانكلين روزفلت كان ديمقراطياً في الحرب الثانية، وكذلك بايدن. الآن يبقى أن تشتعل "الشرارة".

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".