الكمامة التي أنقذتني

الكمامة التي أنقذتني

18 نوفمبر 2020
+ الخط -

حذَّر المدافعون عن اللغة العربية من استخدام لفظ" الكمامة"، ذلك الواقي الطِّبي الذي بات يستخدمه الناس، ضمن تدابير الوقاية من فيروس كورونا. وعلى الرغم من أن اللفظ ليس مناسبا، إلا أن هذا الواقي على الوجه قد ينقذك كثيرا، ليس من الفيروس بالطبع، فأنت لا تدري كيف سوف يتسلَّل إليك، ولو اطلعت على الدراسات والأبحاث الطبية، لاكتشفت أن العلماء في حَيْرة من إصابة مرضى بهذا الفيروس، وهم منعزلون تمامًا عن مصادر العدوى، ولكنه تسلَّل إليهم، ولا أحد يعرف كيف حدث ذلك! ناهيك عن قصص متداولة عن تحليلات المواطنين المتوجِّسين والمتشكِّكين، مثلما روَّجوا قصة سيِّدة أصيبت بالفيروس، وهي لا تخرج من البيت، ولكنه وصل إليها عن طريق أكياس المشتريات التي يحملها إليها عمَّال خدمة التوصيل السريع (دليفري).
إذن، لا مأمن، ولا نجاة. ولكن عليك اتخاذ تدابير الحذر، حتى يتم تعميم لقاحٍ مرتقبٍ للفيروس. وإلى أن يحدث ذلك، يجب أن تتعامل مع نفسك بوصفك مواطنا صالحا؛ فلا تسبِّب الأذى للآخرين على الأقل. ومن هذا المنطلق فقد أحطّتُ فمي وأنفي بهذا "اللثام"، وتوجَّهت إلى البنك، بعد أن تلقيت رسالة بضرورة تحديث بياناتي الشخصية، والتي لم تتغير، منذ سنوات. ولكني، كما أشرت، أتعامل مع نفسي مواطنة صالحة. وهكذا توجَّهت إلى فرع البنك في مدينتي الصغيرة، وبعد المرور بالإجراءات الاحترازية على البوابة الرئيسية، كنت أتخذ دوري على كرسيٍّ مريح وبرَّاق، وحرصت على التباعد، بالطبع، عن العملاء الآخرين الذين وفدوا لتحديث بياناتهم.
طال انتظار دوري، وكدتُ أتقدَّم نحو الموظف الذي يملأ البيانات للعملاء، بحسب دورهم؛ لأخبره أنْ لا شيء تغيَّر في حياتي، مثل العنوان، ورقم الهاتف، وحتى اسمي، فأنا أمتلكه، منذ نحو نصف قرن، ولكني لم أفعل؛ لأن عيني وقعت على شخص دفَع بالذكريات إلى عقلي، وجعلني أتناسى دوري في الانتظار المريع.
كان يجلس قبالتي ويضع الكمامة على وجهه، ولكني تعرَّفته، وهو بالطبع لم يتعرَّفني. ولو مرَّ بعينيه أكثر من مرَّة على الكتلة البشرية التي تجلس أمامه لن يتذكَّرني. أما أنا فأعرفه جيِّدًا، فهو من هؤلاء البشر الذين يحاولون إثبات أنهم مهمُّون، في هذا العالم، فكان ينظر إلى نفسه كثيرا، وفي كل مرَّة يتأكَّد من هندامه، وكنت أتوقع أن يكون قد لمَّع حذاءه القديم ألف مرَّة بطلاءٍ رخيص، فكان يبدو جديدا لعينٍ غير خبيرة، ويبدو متأنِّقا تلك الأناقة التي عفا عليها الدهر، ولا تليق برجل خمسيني، ولكنه يصرُّ عليها. ولذلك لم يكن من الصعب علي أن أتعرَّفه، فهندامه من الطراز الذي لم يتغيَّر، منذ كان في العشرينيَّات من عمره. لم يتغيَّر فيه سوى خطوط تجاعيد حول عينيه، وبعض شيبٍ غزا فوديه، وغير ذلك لم يتغيَّر شيء، خصوصا نحافته الشديدة، والتي كانت تثير خوفي منه.
لا أدري لماذا أعتقد أن الرجال الذين يتَّسمون بالنحافة الشديدة، والمبالغ فيها، هم من النوع القاسي، ربما لأني أعتقد أن نعمة الله تظهر على الطيبين الأنقياء، وربما لأني من هؤلاء الطائفة من البشر الذين يجدون متعتهم بالطعام اللذيذ، ويفرحون أنهم يكتسبون وزنًا؛ جرَّاء ذلك. ولذلك فالرجال الذين مرَّ بهم العمر، وظلوا على نحافتهم البالغة، يخيفونني بشدَّة، فما بالكم بهذا الرجل الذي أعرفه، منذ طفولته!
كان وحيد والديه، ولديه ثلاث أخوات، ولكنه منذ صغره، يتعامل مع العالم أنه سيِّد وملك، وقد عزَّز والداه ذلك الشعور لديه، وكان هو أول مشاريع قصص الحب الوهمية في مخيَّلتي عن ابن الجيران، ولكنه استغلّ مشاعر ساذجة، وبدأ مقايضتي، على القصص المصوَّرة في مكتبة أبي، مقابل ألعاب بلاستيكية بلهاء كان يسرقها من شقيقاته. كنت ساذجة؛ لأني كنت أقبل أن استبدل الخيال بواقع كاذب، وكنت أقبل أن يسرق أحلام شقيقاته لكيدٍ نسويٍّ صغير داخلي، حمدت الله كثيرا أنه لم يكبر.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.