الكرامة والإسمنت

30 مارس 2025
+ الخط -

الكرامة: احترامُ المرءِ ذاتَه. شعورُهُ بقيمته الشخصيّة حدَّ التأثُّر إذَا انتُقِصَ قدْرُه. توقُه إلى الحريّة. رفضُه المهانة والقهر. أمّا الإسمنت فمادّةٌ تُستعمل في البناء. لكنّها ترمز أيضًا إلى التحجّر، إلى المدن التي تبتلع الإنسان، إلى الأنظمة التي تُشيَّد على أنقاض الأفراد، إلى حروب دمارٍ من أجل الإعمار بواسطة صفقات السلاح وعروض الحدائق الإسمنتيّة. تبدو الكرامةُ محاصَرةً بالإسمنت هذه الأيّام. مختنقةً تحته. تحاول أن تنبت من بين شقوقه كما تفعل جذور الأشجار بالجدران القديمة.

يتحدّث مونتسكيو (1689-1755) في إحدى الأمثولات الرمزيّة الواردة في "رسائل فارسيّة"، عن شعب التروجلوديت (سكّان المغارات، المنحدرين بحسب قوله من أصولٍ عربيّة)، زاعماً ما معناه أنّهم عانوا من حُكّامهم مراراً وتكراراً، حتى قرّروا ألّا يطيعوا أحداً، وأن يرعى كُلٌّ مصلحتَه الخاصّة. ذهب بهم الظنّ إلى أنّهم بذلك يعيشون سعداء، فإذا هم أتعس وأشقى، لأنّهم لم يدركوا ضرورة الاحتكام إلى قِيم أخرى، غير قيم العيش في إسطبلاتٍ مطوّقةٍ بالإسمنت. من هم تروجلوديت اليوم، يا تُرى، بعد أن غادر الإنسان كهوفه ومغاراته المحفورة في الجبال، إلى أخرى يُسند أبراجَها الإسمنتُ المسلّح؟

في خطاب ألقاه يوم 4 مارس/ آذار الجاري، في القمّة الاستثنائيّة لجامعة الدول العربيّة عن غزّة، تطرّق أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرس، إلى القتلى والجرحى وحجم الدمار الذي شهده القطاع، معرباً عن أمله في أن تجسّد القمّةُ المسؤوليّةَ الجماعيّة لإنهاء الحرب، والتخفيف من المعاناة الإنسانيّة، وتحقيق السلام الدائم، مشدّداً على أنّ المساعدات الإنسانية ليست موضوعاً للتفاوض، مضيفاً أنّها يجب أن تتدفّق من دون عوائق. وعند التطرّق إلى مسألة إعادة الإعمار، ألحّ على أنّ "الكرامة هي الأساس الحقيقيّ لنهضة غزّة، وليس الإسمنت".

في المقابل، حضرت شعاراتٌ كثيرة ومفرداتٌ عديدة في وثائق القمّة العربيّة، ولم تحضر مفردة "الكرامة"، عند التلميح إلى الدمار ولا عند التصريح بخصوص الإعمار. حتى إنّك قد تظنّ أنّ معجم النظام الرسمي العربي، في معظمه، كي لا نظلم القلّةَ القليلةَ المفترضة، لا يعرف هذه المفردة أصلاً. وكيف يعرفها من لا يعرف استخدامها مع شعبه، ولا مع نفسه، بما أنّه ملزمٌ بتجنّبها مع حُماته وأولياء نعمته!؟

عارٌ لا يوصف ما حدث ويحدث في غزّة. ولا أحد يدري متى ينفد الصبر، لكنّه نافدٌ لا محالة، نفادَ تملّق الأنظمة العضوض. ومعه تنفد كلّ قدرةٍ على تملُّق الشعوب أيضاً، إذ على الشعوب أن تتحمّل مسؤوليّتها، وأن تكفّ عن الاختباء في "غُفليّتها" وفي "عظَمتها العدديّة"، للتنصّل من كلّ مسؤوليّة، بدعوى أنّها "شعوب عظيمة لا تخطئ"، وأنّ الذنب محمول دائماً على "الآخر": النخبة، أو النظام، أو الخارج... إلخ.

ليس من شكّ في أنّ لهذا نصيبه من الصحّة، إلّا أنّ للشعب نصيبه من المسؤوليّة أيضًا. لقد عرف التاريخُ البشريّ عارًا قريبًا من هذا في فترات معدودة، ولم يكن السؤال الحقيقيّ، حينئذ، كيف تسمح الأنظمة بهذا العار، فهي مصنوعة أصلًا، وموضوعةٌ على الرقعة، لتسمح به. السؤال الحقيقي كان دائمًا: كيف تسمح الشعوب بهذا العار؟ وعبثًا تتعلّل بالأنظمة والحكّام. الشعوب هي المسؤولة عن أنظمتها وحُكّامها وهزائمها.

ليست الحربُ قنابلَ فحسب. إنّها قصفٌ لُغويٌّ أيضاً: "كفانا حروباً". "بدّنا نعيش"... هل من اعتراض على هذا؟ إنّه جزءٌ من بديهيّات حياة الإنسان، وليس من حقّ أيّ كان أن يحرمه منها، أو يمنّ عليه بها، أو يزايد عليه فيها، أو يساومه عليها ويبتزّه بها. لكن ذاك ما يحصل. يوضع الإنسان في مربّعٍ الموت وينهال عليه الخذلان من كلّ جانب، حتى ييأس من أحلامه. يبيعها بالأوهام. يستمرئ رشوةً مسمومة. يتقبّل فكرة أن ثمن الاستسلام أَهْوَن. يتصوّر أنّ ذاك هو صوت العقل. وشيئاً فشيئاً تُمسخ العقلانيّة إلى تواطؤ بين الشعوب وأنظمتها، وبين الأنظمة و"حُماتِها".

يؤكّد مونتسكيو في "رسائله" أنّ التروجلوديت هلكوا واحداً تلو الآخر، لأنهم لم ينتصروا لكرامتهم المغدورة. سلّم الناجون منهم رقابهم إلى مصّاصي الدماء والثروات، مقابل وَهْمِ الأمن وعيشِ البهائم. هذه القصّة مرآة لكل مجتمع يسكت عن الظلم مقابل أمنِ السجّان، ويقبل بالذل مقابل رغيف السجين. وهي ليست مجرّد حكاية رمزيّة خرافية. إنّها تأملٌ عميق في مصير الإنسان بين الحرية والعبوديّة، بين الكرامة والإسمنت.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.