الكتابة وخطورة أن تكون غير جلدك

23 يناير 2025

(محجوب بن بلة)

+ الخط -

طالما لم تجرّب العمى فلن تكون مثل بورخيس، حتى وإن قرأت كل مكتبة بيونس أيرس عن بكرة أبيها، حتى وإن سافرت روحُك إلى كل ملوك الشرق وممالكهم الغامضة، وأجدت مفردات اللاتينية القديمة، وعرفت كل سراديبها ومشتقاتها وما دخل عليها من مفرداتٍ مستحدّثة عبر ثلاثة قرون.

وطالما لم تحطّب في الجبل أربعين سنة محبّة لشيخك وبلا مباهاة أو أي طلب للأجر فلن تكون أبداً "يونس امره"، حتى وإن غازلت القمر خمسين سنة بإشعال الحطب بجوار شباك شيخك، وإن حزت من الرّقة الإنسانية فدانين، وكنت من أهل أم العواجز، وكنت من أهل وسماع النغم العربي والتركي معاً، وعملت كسفير فوق العادة أربعين سنة، وأجدت اللغات مع اللغة التركية في البيت، وكان لك نصيبٌ ملحوظٌ من قصر القامة فلن تكون أبداً يحيي حقي.

وإن ملأت عشرين كتاباً بما يشبه الكآبة سخطاً على العالم وعلى نفاياته الحضارية التي ملأت أيضاً الكتب وفاضت حتى غطّت على كل جبال وقرى وكنائس رومانيا، فتركت هذه الجبال كآبة، كي تنشر كل ذلك في طول باريس وعرضها فلن تكون أبداً سيوران.

ولو قرأت فرويد كله ومارست التحليل النفسي على مقربةٍ من كتفيه خيالاً، ومزجت انتقاداتك اللينة والرصينة لفرويد وتنظيره الجامح لأهمية "الليبدو" مضفراً ذلك وبحرص مع كلود ليفي شتراوس، فلن تكون أبداً باشلار. أما أرنستو ساباتو فهذا من رابع المستحيلات، خاصة وأن الرجل قد لحق بربه قبل أن يكمل المائة عام بأيام معدودات، وفي آخر أيامه قد كفّ بصرُه ورمى شهادات الدكتوراه الخاصة به في العلوم الطبيعية خلف ظهره مع كتابة الروايات، ودفاعه عن حقوق الناس، واكتفى بالرسم بالفحم، ولأنه هو الكاتب الوحيد الذي أعلن رفضه كل شلل الكتّاب وصنّاع المعرفة والثقافة وهدم نخبويّتهم من أساسها بمقولته الشهيرة "لكم تمنيّتُ أن أكون كسمكري سيارات في حارة سد ولا أكون ما أنا عليه".

الكتابة كبصمة للروح لم تكتشف بعد، وطعم الضحكة الأولى، وكأنها مخطوطةٌ أولى للذات لا تقلد أبداً، لأنها كتبت على شموع من دهون خنازير الحبشة المقدّسة، ونسي الكاهن نسب خلطتها مع الأحبار والروائح الأخرى التي تجلب بقداسة من الغابات، أو غابة الذات وأحراشها المتداخلة. في الأحبار ترى ظلك حتى وإن كنت تكتب في الليل وتشم رائحة عرقك وبدنك؛ أنت لا بدن أحد غيرك، ولا حكاية أحد غيرك، ولا تعب أحد غير تعبك.

الكتابة هي مرآتك أنت بكل كسورها وغبشها ورخص سعرها في السوق، أن تكتب هي أن تحدّق في بئر أغنامك أنت لا بئر غيرك، وأن تسمع غناء حاديك أنت، لا ذلك الحادي المُستعار من جبال نجد أو تركستان. الكتابة هي ذلك السرّ الذي تخرجه وهو يتعثّر في خطاياك وظلمتك أنت وهوانك أنت وكآبتك أنت ومخاوفك أنت، لأن الكتابة هي عزفك الأعرج على عكّازك وكأسك وفشلك وطبيعة انتظارك الرزق أو الخسارة؛ الكتابة تشبه قبرك لو استطعت مثلاً أن تبنيه بيديك، وأنت في ساعات شجن مخلوط بيأس وفرح، وفجأة قبل أن يكتمل البناء ترى يمامتيْن تتعاركان فوق فرع شجرة رأيتها أنت بجواركم، وما كنت أبداً تظن أن بجوار قبرك ستكون هناك شجرة، فكانت، وبعد شهرين، أزهرت الشجرة وحطّت الزهرات بجوار قبرك أنت، ولوّنت أسفل صبارتك وشاهدك بالأحمر، فمشيت وقد أحسست حظك البعيد.

تشبه الكتابة، إلى حدٍّ ما، حظك البعيد الذي يأتي ولو حتى في آخر عمرك، بعد ما تكره أي انتحال في الكتابة.

الكتابة هي التي تحبّها لنفسها ولصفائها وفقرها واعوجاجها من دون أن تتسابق بها، ولو سرّاً، مع أحد، حتى وإن كان أجمل منك وأكثر بهاءً منك وأكثر معرفة وثقافة منك، ولديه مكتبة واسعة في حجم حديقة صغيرة يحملها على ظهره وهو يدبُّ في بقية حديقته بعصا من الأبنوس. الكتابة هي أغنامك أنت لا أغنام ذلك المشهور، وله حداة في الصحراء بعشرين جملا في كل جبل.