الكتابة تحت القصف
فلسطيني يكتب على جدار هدمه قصف إسرائيلي في غزّة (1/5/2024 الأناضول)
في زمنٍ كالحرب، حين يتهاوى المعنى، وتغرق اللغة في فوضى الدم والرماد، تصبح الكتابة فعلاً شبه مستحيل، فالكلمات تُخذَل، والعقل يترنّح، والمشاعر تنفجر في داخلنا كقنابل لا صوت لها.
يقولون في غزّة: كيف نكتب وسط هذا الخراب؟ كيف نُمسك بخيط الوعي ونحن نرتجف داخل كابوسٍ لا يستفيق؟ تساؤل طرحه جوزف كونراد مرّة: "كيف تفكر في وعي وأنت في كابوس؟"، وكأنّه كان يصف ما يعيشه كل من يحاول اليوم أن يكتب عن غزّة، عن الأطفال المذعورين، عن البيوت التي تبتلعها النار، عن الأرواح التي تُسحب من تحت الركام.
أن تكتب وسط هذا كله يعني أن تحاول النجاة بالكلمات من عالمٍ غارق في الصمت.
ليست الكتابة في لحظات الألم ترفاً فكرياً، وليست محاولةً لصنع نصٍّ بليغٍ يليق بالجوائز على سبيل المثال. إنها مقاومة. صرخة داخلية تبحث عن نافذة. الكاتب الذي يجد نفسه محاصراً بين الأخبار والصرخات والصور التي تنكسر فيها ملامح البشر، لا يسعُه أن يكتب كمن ينظر من بعيد إلى أمرٍ لا يهمّه. هو ليس شاهداً فقط، بل مجروح، يعاني عجز اللغة عن احتواء ما يرى، إذ تأتي الكلمات مكسورة، مرتعشة، تائهة في دهاليز الألم. ومع ذلك، لا بد أن نكتب. لا بد أن نحاول.
أن تكتب عن غزّة اليوم يعني أن تكتب وأنت تحمل حجراً في صدرك. أنت لا تسرُد ما يحدُث فحسب، بل تصوغ من الدم لغة، ومن الفقد شهادة، ومن الخراب محاولة للفهم، فالطفل الذي يركض حافياً تحت القصف، والمرأة التي تودّع أولادها بلا وداع، والشيخ الذي يجلس على أنقاض بيته حاملاً صوراً محطّمة… كلهم أمانة في عنقك. مهمّة شاقة أن تصوغ هذا كله في جملة، أن تختصر كل هذا الموت في فقرة. لكنك تحاول، لأن الصمت خيانة.
في لحظاتٍ كهذه، لا تعني الكتابة الحياد، ولا تعني التوازن البارد الذي يفصل بين الضحية والجلاد. بل تعني الانحياز للإنسان، للوجع، وللحقيقة التي يُراد دفنها تحت ركام الإعلام المُعلّب. مهمة الكاتب هنا أن يخرق الصمت، أن يلتقط ما لا يُقال، أن يُعيد للوجوه أسماءها، وللضحايا قصصهم، وللواقع صوته البشري. صحيحٌ أن الفوضى تربك المعنى، والحزن يعتّم على العقل، لكن هذا بالضبط ما يجعل الكتابة ضرورة؛ أن تجد في الفوضى بصيص وعي، فتشعل بالكلمات ضوءاً صغيراً في عتمة دامسة.
والكاتب في زمن الحرب لا يملك ترف المسافة. هو في قلب النار. يرى ويسمع ويتشظّى من الداخل حتى وهو خارج كل هذا الخراب. لا يكتب من بُرج عاج، بل من خندق. من غرفة بلا كهرباء. من زاوية ضيقة يكتب فيها وهو يتفقّد الأخبار كل لحظة. ومع ذلك، يحاول أن يُبقي على وضوحه، أن يُمسك بحقيقةٍ وسط الضباب، أن يُخبر العالم أن هناك أناساً يُفقدون كل شيء، بما في ذلك الحق في الحزن.
وفي هذا كلّه، لا تعود الكتابة مجرّد فعل، بل تتحوّل إلى أداة إنقاذ. إنقاذ للذاكرة من النسيان، وللحقّ من التشويه، وللإنسانية من التحلّل، فالكاتب قد لا يغيّر العالم بنص، لكنّه يترك فيه ندبةً عندما يجعل القارئ يشعر ويفكر ويتوقف، وهذه وحدها مقاومة. ولذلك تعتبر الكتابة تحت القصف فعلاً شجاعاً. ليس لأن الكاتب لا يخاف، بل لأنه يخاف ويكتُب. وليس لأنه يملك الإجابات، بل لأنه يطرح الأسئلة التي يخاف الآخرون من طرحها. وبين كل صوتٍ يُقصف، وكل حلم يُهدَم، تبقى الكلمات طريقاً للخلاص، وإن كانت متعثّرة، دامعة، متكسّرة.
نعم، يقولون في غزّة: نحن نكتب وسط الكابوس، لا لأننا أقوياء، بل لأننا لا نحتمل أن يصير الألم عادياً، ولأن كل طفلٍ يُقتل، وكل بيت يُهدم، ينبغي أن يجد مكانه في السطور، وأن يُذكر ويُروى ويُحكى. فربما، فقط ربما، تُنقذ الكتابة ما لا تستطيع إنقاذه البنادق ولو مرّة واحدة فقط.