القوة الناعمة "المتوحّشة" للنظام العربي

القوة الناعمة "المتوحّشة" للنظام العربي

11 نوفمبر 2021
+ الخط -

لا تحكم الأنظمة العربية الشعب فقط بالقوة الأمنية الخشنة، والقوانين القمعية، ومصادرة الحريات، والتحكّم بمصدر الرزق، وتقديم أصحاب الحظوة لتقلد المناصب، واضطهاد من يسمّونهم "العامة" أداة الحكم الأكثر فاعليةً في إخضاع الشعوب العربية، وحقنها بمخدّرات الاستسلام وانتظار ما لا يأتي، هي النخب التي تحتضنها الأنظمة، وتعتاش في حاضنتها.

النخب العربية المتصدّرة مجالس الحديث والتأثير، في الإعلام والثقافة والأدب وحتى الفن، هي القوة الناعمة التي تستعملها الأنظمة لإحكام قبضتها على الشعوب، فهي التي "تبيع" للناس منتجات الطبقة الحاكمة و"منجزاتها" باعتبارها صالحة للاستهلاك البشري، وهي في الحقيقة مجرّد "نفايات" لا تصلح للاستهلاك الحيواني، شأن شركات المأكولات السريعة وال "جنك فود" التي تًزيّن منتجاتُها للأجيال الصاعدة المفتونة بها، وهي في حقيقتها من سقط الطعام؛ غير متوازنة، غنية بالكوليسترول والدهون المشبعة. وبهذا المعنى، هي سموم حقيقية متنكرّة في ثوب غذائي، وهذا هو بالضبط ما تبيعه النخب للجمهور العربي البائس.

النخب العربية المتنفذة، التي تدللها الأنظمة وتحملها "على كفوف الراحة"، فتنقلها من منصب إلى آخر، وتُغدق عليها المال بلا حساب، سواء على شكل رواتب أو أعطيات أو هبات وحوافز وتسهيلات، هي القوة الناعمة المتوحّشة التي تفتك بالعقل الجمعي العربي، وتعمل بمثابة الخنجر المسموم الذي يعطّل الوعي، ويشوّه العقول، ويزيّن له تلك المسوخ التي تتحكّم بمصائرها، وتصوّرها باعتبارها المهدي المنتظر الذي سيخلصها من شرور المسيح الدجال.

أخطر النخب وأكثرها سمّية الدينية التي تفصّل للحاكم الفتاوى على مقاسه، فترفعه إلى مصاف الآلهة، وتحصّنه من أي خطأ

نظرة سريعة على الدور القذر التي قامت به تلك النخب البائسة في تشويه "الآخر"، وقلب الحقائق، وبيع الوهم، وتسويق بضائع الأنظمة الفاسدة، تجعلك تدرك أنها الرديف الناعم والخطير لقبضة الأنظمة الحديدية، بل فاعليتها أكثر خطورةً من تلك القبضة التي تهدف إلى البطش بالجسد، لأن تلك القوة الناعمة المتوحشة تبطش بالروح، وتُفسد العقل والوعي، وتشوّه الوجدان، والأمثلة هنا أكثر من أن تُحصى، لتلك المعارك التي خاضتها تلك القوى على جبهة الوعي الجمعي العربي، ومنها على سبيل المثال:

أولا، تشويه المعارضة وشيطنتها، أي معارضة، حتى ولو كانت وطنيةً وراشدة. تصوّرها فئة خارجة عن "الإجماع الوطني" غير الموجود أصلا، ومهمتها الأساسية "تخريب" الجبهة الداخلية. وأصغر التهم التي تكال لها أنها "مرتبطة بالخارج"، وهي تهمة جاهزة لإضفاء صفة الخيانة عليها فيما بعد، حتى إذا أنشبت السلطة أظافرها فيها، برّرت تلك النخب هذه الخطوة بأنها جاءت "دفاعا عن الوطن" ووحدته وأمنه، وتخليصا له من فئات خارجة عن القانون..

ثانيا، محاولة تصوير الشعوب العربية أنها لم تبلغ بعد سن الفطام، ولا تستحق اختيار حكّامها. وتبلغ هذه المحاولات أسوأ صورها في تلك البلاد التي تصوّر الحزبية رجسا من عمل الشيطان، والمظاهرات والتعبير عن الرأي خروجا على "ولي الأمر"، وهو أمر يصل إلى حد الكفر والتخريب والإفساد في الأرض. أما الانتخابات فحكاية أخرى، فهي، في بعض الأصقاع، حلمٌ بعيد المنال، ولا تخطر ببال الشعب، حيث تُحرم تلك النخب من مجرّد ذكرها. وفي البلاد التي تجريها بين حين وآخر، تتم وفق نسخةٍ ممسوخةٍ تجعل منها مهزلةً بالتزوير والعبث، لتأتي تلك النخب متغنيةً بالنزاهة والحرية التي تمتّع بها الناخبون والمترشّحون، وكلا الجانبين خضعا لعمليات تشويهٍ معقدة، كي تأتي النتائج على المقاس المريح للأنظمة.

ثالثا، أما تلك المجموعات التي تعمل في حقل حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني، فهي، إن سُمح لها أن تكون موجودة أصلا، مجرّد مجمعات للجواسيس المرتبطين بالخارج، يعملون على إرسال تقارير إلى العالم "تفضح الوطن"، ويتاجرون به سعيا وراء الشهرة والمال، وهي صورة تبرّع في بيعها وتسويقها نخب الجعجة الإعلامية، ومن يعتلون المنابر الرسمية، المسموح لهم دون غيرهم في التعبير والوعظ والتوجيه.

صناعة النخب الموالية، وتجهيز كتائب التوجيه على جبهة الوعي، من أهم وسائل السيطرة على عقول الناس

أخطر النخب وأكثرها سمية الدينية التي تفصّل للحاكم الفتاوى على مقاسه، فترفعه إلى مصاف الآلهة، وتحصّنه من أي خطأ، وتجهز له كل ما يلزم من نصوص مدعّمة بالأحاديث والآيات، لتبرير كل ما يفعله هو وبطانته، باعتباره عمل خيرٍ من أجل الأمة، وصلاحها ورفعتها، بل تجعل من طاعته عملا عباديا يتقرّب به إلى الله، فضلا عن تبرير أخطائه وفحشه و"الستر" عليه، حتى لو رؤي وهو يمارس الفاحشة على الهواء مباشرة.

الخطوة الأولى التي تتعين على أي مشتغلٍ في أي مشروع إصلاحي نهضوي حقيقي في هذه الأمة أن يعمل أن يكون له نخبه الخاصة التي تسوّق فكره وتدافع عنه، وتتصدّى لتلك النخب البائسة. وبغير هذا، لن يُكتب الإصلاح لأي مشروع من هذا النوع، لأنه سيكون عرضةً للشيطنة والتشويه، لإبعاد الجماهير عنه، والتشكيك في نياته.

صناعة النخب الموالية، وتجهيز كتائب التوجيه على جبهة الوعي، من أهم وسائل السيطرة على عقول الناس، وديمومة خضوعهم للاستبداد، وتصويره منجزا إلهيا، منّ الله به على الشعب. ومن حسن العبادة والتقرّب إلى الله عز وجل، أن يسبح الشعب بحمد من يلهب ظهره بالسوط صباح مساء، لأن هذا السوط أنعم الله به على من اختارهم من عبيده للعيش في كنف هذا الحاكم أو ذاك.