القمّة الأوروبية المصرية وتحوّلات سياسية
تستضيف بروكسل في 22 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري القمة الأوروبية المصرية بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين. لا تمثل هذه القمة إطلاق مرحلة جديدة في العلاقات المصرية الأوروبية فحسب، ولكنها تعد أيضاً بمثابة إعلان عن الخط السياسي الجديد للاتحاد الأوروبي تجاه جنوب المتوسط، والذي بدأ في التبلور منذ 2022. لم يُدع الرئيس السيسي إلى قمة ثنائية بهذا المستوى في بروكسل من قبل. وهو يسعى في هذه الزيارة إلى تأمين الحد الأقصى من المكاسب المالية والاقتصادية والاستثمارات التي تعين الدولة المصرية على مواجهة أزمتها الاقتصادية والاجتماعية المستعصية. وفي الوقت نفسه، يعزّز الاتحاد الأوروبي مقاربته الواقعية والبراغماتية في السياسة الدولية والإقليمية، القائمة على الصفقات الثنائية والتي تحدّثت عنها مراراً رئيسة المفوضية الأوروبية في خطاباتها السياسية، وكان جديدها أخيراً خطاب حال الاتحاد الأوروبي لعام 2025.
في المقابل، يستقبل مجتمع حقوق الإنسان المصري والأوروبي هذه التطورات بشعورٍ من خيبة الأمل والقلق من تهميش قضايا حقوق الإنسان الملحّة في مصر من مسار العلاقات المصرية الأوروبية، واستغلال السلطات في مصر الدعم الأوروبي في تبييض صورتها من دون تقديم خطوات حقيقية لفتح المجال العام، خصوصاً في السنوات المقبلة الممهدة لانتخابات رئاسية، في ظل تقارير إعلامية عن احتمالات تعديل الدستور المصري لتمديد حكم السيسي. ومن المرجّح أن انعقاد هذه القمة كان محفزاً للحكومة المصرية لإطلاق سراح السجين السياسي الأشهر علاء عبد الفتاح بعد قضاء عشر سنوات في السجون، وقرار الرئيس رفض التصديق على قانون الإجراءات الجنائية، والذي كان محط انتقادات دولية واسعة، وإعادته إلى البرلمان لتعديله. لكن هذه الخطوات تبقى في إطار المناورات التكتيكية المحدودة التي اعتادت عليها السلطة من وقت إلى آخر رفعاً للحرج عن الشركاء الدوليين المنخرطين في تقديم الدعم الخارجي.
لا تمثل القمة المصرية الأوروبية إطلاق مرحلة جديدة في العلاقات المصرية الأوروبية فحسب، ولكنها تعد أيضاً بمثابة إعلان عن الخط السياسي الجديد للاتحاد الأوروبي تجاه جنوب المتوسط
تأتي زيارة السيسي بروكسل في ذكرى مرور 30 عاماً على صدور إعلان برشلونة عام 1995، والذي مثل الإطار السياسي والاستراتيجي للعلاقات الأوروبية العربية. لكن اللحظة السياسية الراهنة تمثل شهادة وفاة لما بشّر به هذا الإعلان ببناء منطقة متوسّطية يسودها السلام والقيم المشتركة والديمقراطية وحكم القانون، فالجسور التي حاول إعلان برشلونة تشييدها بين الشمال والجنوب تحوّلت إلى جدار حديدي عازل تحمي به أوروبا نفسها من المخاطر القادمة من جنوب المتوسّط، وخصوصاً تدفق المهاجرين وطالبي اللجوء، وهي الظاهرة التي تعكس الفشل البنيوي في نماذج حكم دول جنوب المتوسط. وقد بدأ الخط السياسي الحالي الذي يمثل ردّة كاملة عن مسار برشلونة للشراكة الأورومتوسطية في سياق تغيرات سياسية عميقة في أوروبا والمنطقة العربية. بدّلت الحرب الروسية الأوكرانية الحسابات السياسية والجغرافية للاتحاد الأوروبي بحيث سعت أوروبا إلى تأمين مصالحها المباشرة في شرق أوروبا ووسطها، وهي الدول القريبة من التهديد الروسي، وبين تأمين الاستقرار والأمن وجلب المنافع، خصوصاً في مجال الطاقة من جنوب المتوسط. وقد كانت الخطوة الأبرز في منتصف عام 2022 التوقيع على مذكرة تفاهم ضمت مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي لضمان تصدير الغاز لأوروبا، وتعزيز التعاون في مجالات الاستكشاف والإنتاج والبنية التحتية للغاز في المياه الإقليمية الإسرائيلية والمصرية. هدف الاتحاد الأوروبي من هذه الخطوة إلى إيجاد بدائل لتعويض الاعتماد على الغاز الروسي، واعتبار مصر محطّة عبور رئيسية لتأمين بديل عن الغاز الروسي.
وقد سعى الاتحاد الأوروبي، في الوقت نفسه، إلى تقديم الدعم للاستقرار السياسي والاجتماعي في مصر، خصوصاً بعد الحرب الإسرائيلية على غزّة، عبر ضم مصر وغيرها من دول الجنوب، مثل تونس والمغرب، إلى ما تُعرف بالشراكة الاستراتيجية الشاملة والتي تقوم على وضع أولويات ثنائية بين الاتحاد الأوروبي ودول الجنوب عادة ما تهدف إلى تعميق التعاون في مجالات الطاقة وتنظيم الهجرة وموجات اللجوء، وحماية الحدود، والتعاون في التجارة والأمن، وقد وافق الاتحاد الأوروبي في بداية عام 2024، وفي وقتٍ كان الاقتصاد المصري يمر فيه بوضع مالي خطير، بحزمة من المساعدات الاستثنائية، وقروض ميسّرة لمساعدة استقرار الاقتصاد المصري وتسهيل التفاوض بين مصر وصندوق النقد الدولي على القروض الجديدة.
سعى الاتحاد الأوروبي إلى تقديم الدعم للاستقرار السياسي والاجتماعي في مصر
ولم تكن هذه التطورات الثنائية بمعزل عن ولادة ما يعرف "بالعهد من أجل المتوسط"، وهو مسار جديد متعدّد الأطراف أطلقه الاتحاد الأوروبي هذا العام، وسيعلن عن تفاصيله الكاملة الشهر المقبل. يقوم، طبقاً لما هو منشور، على مقاربة تتمركز حول الحكومات، مع تهميش المجتمع المدني المستقل، وتغليب قضايا التجارة والأمن والطاقة والهجرة على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. يتناقض العهد بهذا الشكل كليّاً مع روح إعلان برشلونة لعام 1995 وقيمه، ما يمثل تحوّلاً جديداً في السياسات المعلنة للاتحاد الأوروبي تجاه الدول العربية جنوب المتوسط. ويتجاهل العهد من أجل المتوسط الشروط القائمة على ربط التعاون الاقتصادي والمالي مع دول جنوب المتوسّط بأوضاع حقوق الإنسان واحترام استقلال المجتمع المدني، والتي اعتاد الاتحاد الأوروبي على تضمينها في سياسة الجوار الأوروبية، في إطار تغليب المصالح الثنائية بشكل واقعي وضيق.
لقد فرضت المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية الراهنة بلورة شديدة الواقعية للسياسات الأوروبية تجاه مصر ودول جنوب المتوسّط. وعلى الرغم من أن القمّة الأوروبية المصرية الأولى من نوعها في بروكسل تفتح الباب أمام دعم اقتصادي ومالي ضروري لإنقاذ الاقتصاد المصري، إلا أن الاتحاد الأوروبي وغيره من الشركاء الدوليين يكرّرون الخطأ التقليدي في التوهم أن الاستقرار في مصر يمكن تأمينه من دون فتح للمجال العام وضمان حدٍّ معقول من الحرّيات العامة، وحدٍّ أدنى من الشفافية وحكم القانون.