القصيدة والقنبلة
(تمّام عزام)
سنة 2012، نشر الكاتب الألمانيّ غونتر غراس (1927 - 2015) قصيدة نثرية بعنوان "ما يجب أن يُقال"، تناول فيها الضربة الوقائية التي تعد لها إسرائيل ضدّ المنشآت النووية الإيرانية بتواطؤ مع حلفائها، رافضاً إبادة شعبٍ بشبهة أنّ قيادته تصنع قنبلة ذرية، مُندّداً بتعامي الجميع عن ترسانة إسرائيل النووية التي تُهددّ السلام العالمي على مرأى ومسمع! فوراً، تحرّكت الآلة الإعلامية الصهيونية و"أخواتها" لتشويه الرجل وتخوينه واتهامه بالخرَف وقلّة الذوق ومعاداة السامية، مذكّرة بأخطاء شبابه (كان هو أوّل من اعترف بها) ولم يبق إلّا أن تعتبره مطلوباً (Wanted) حياً أو ميتاً.
ليست غاية كاتب هذه السطور طرح المسألة من الناحية السياسية، أو تأكيد إن كان التواطؤ واضحاً والمؤامرةُ حقيقية، وإن كانت الحرب المؤجّلة ضدّ إيران تعود إلى السطح لأسباب جيو سياسيّة لا علاقة لها بوجود خطر نووي حقيقي من عدمه. فلهذه المسائل خبراؤها. ولا خلاف على أنّ شجب المؤامرة والتعاطف مع الشعب الإيراني لا ينفيان الاختلاف مع خيارات النظم كما لا يتعارضان مع الاحتراز من الصناعة النووية ككل. وقد بات واضحاً الآن أنّ المسألة مرتبطة بإرادة الهيمنة، والتوسّْع، وتكليف شوكة معيّنة بالمهمّات القذرة في هذا المجال.
ما يعني كاتب هذه السطور، في هذه اللحظة تحديداً، النظر إلى المسألة من الزاوية الثقافيّة، في تشابكها مع زوايا النظر الأخرى، والتوقّف بعض الشيء أمام الاستخفاف بالشعر والأدب عامّة، كلّما تجرأ على موقفٍ من السياسة.
ظهرت لقصيدة غونتر غراس ترجمة إلى الفرنسية بمبادرة من أحد مواقع الإنترنت، إلاّ أنّها لم ترُق للناشر الفرنسي، فطلب من الموقع سحبها في انتظار نشر ترجمة "مُرخّصة"!. ... هل كانت "تعلّة الترجمة المرخّصة" محاولة لإضفاء جرعة من "الشاعرية" على نصّ اختار له صاحبه أن يكون كما كان، أي أن يكون واضحاً في موقفه السياسي المباشر؟
اعتبر منتقدو غراس هذه "المباشرة" ضعفاً شعرياً. وسأل بعضهم: لماذا لم ينشر مقالة ما دام يريد الخوض في الشأن السياسي؟ ولعلّ الرجل، وهو الخبير بشؤون الكتابة، لم ينتظر هؤلاء كي يعرف ما هو بصدد فعله، وكم تُخفي الحماسة الجمالية، في أحيان كثيرة، رغبة في إخصاء النصوص من كل موقف.
انتبه إلى هذه المسالة نيرودا، حين تحدّث عن ضرورة تسديد الشاعر، بين فترة وأخرى، ضرباتٍ لأعداء شعبه، وانتبه إليها ناظم حكمت وأراغون، بل انتبه إليها بودلير أيضاً. ولولا ذلك ما كانت "أزهار الشرّ" تتعرّض إلى المحاكمة بسبب قصائد اعتبرت مباشرة وفاضحة.
ثمّة رغبة ماكرة في تحييد الشعر ومنعه من التدخل في ما يعنيه عن طريق دفعه بعيداً عن الأحداث بدعوى الترفّع عن المناسباتية أو عن طريق دفعه إلى الإيهام باسم الجمال، ولعل غونتر غراس واجه المكر بمكر، حين وضع نصّه تحت لافتة القصيدة.
حين قرّرت لجنة نوبل للآداب (1999) منحه جائزتها لم تجد تبريراً أفضل من القول إنه "رجل الأنوار في عصر تعب من عقله"!. وليس من شك عندي في أنّ لتغييب العقل في هذا العصر صلة باختيار هذا السارد اللامع القصيدة وسيلة للتعبير عن موقفه.
القصيدة تعني الشعر، والشعر يبيح لصاحبه أوسع هوامش الحرية، لأنه لا يخضع لمقياس الصحة والخطأ اللذيْن يخضع لهما الخطاب الحجاجي، ولعلّ الرجل تحصّن بالقصيدة، لأنه يعرف أثرها في القلوب، بعد أن أغلقت المنافذ إلى العقول، مُحدّداً بذلك بينه وبين القارئ ميثاق الكتابة الذي يسمح له بأن يكون في حلّ من قواعد الحجاج.
لم يكن الرجل في غفلة عمّا ينتظره. وفور ظهور القصيدة، تحركت آلة الفتك. ومن بين ردات الفعل التي تلخّص استراتيجية الحجاج الصهيوني، ما ذهب إليه هنريك برودر أنّ غونتر غراس يعاني مشكلة مزمنة مع اليهود وجدت في قصيدته الأخيرة تعبيرها الأوضح. مُضيفاً أنّ غراس أفضل من يمثل النموذج النمطي للمثقف الألماني المهووس بمشاعر الخزي والندم، والذي لن يجد سكينة الروح إلّا عند زوال إسرائيل!
قد يختلف النقد والفكر في تقييم هذه النصّ جمالياً ومضمونياً، لكن من الصعب الاختلاف في أمرين: قدرة القصيدة على أن يكون لها أثر القنبلة، في عصر يزعم التحاق الشعر بالديناصورات المنقرضة، وغلبة القنبلة على القصيدة.