القدس أم رثاثة القيادة الفلسطينية؟

القدس أم رثاثة القيادة الفلسطينية؟

01 مايو 2021
+ الخط -

لا تُسعفك درايتك باللغة العربية بالمفردة الأدقّ لنعت انتظار رئاسة دولة فلسطين أن تجيز إسرائيل لها عملية التصويت في انتخابات المجلس التشريعي في القدس. تُراها البلادة تقعُد القرفصاء في عقل هذه الرئاسة؟ ربما. .. ما يزيد التفكير في الأمر عنتا أن الرئيس محمود عباس عندما يقرّر تأجيل إجراء الانتخابات إلى أن توافق إسرائيل على تنظيم الاقتراع في القدس يجعلك تظنّ أنه صار في موقعه الراهن أول من أمس، أو ربما دلف إلى المراتب العليا في منظمة التحرير الفلسطينية الأسبوع الماضي، وإلا كيف يتخيّل، فخامته، أن دولة الاحتلال، وهو الذي راكم خبرةً طويلةً في مفاوضاتها في ألف شأن وشأن، ستوافق على ما طلب؟ ما الذي يُلزمها، أو يضطرّها، أو يجبرها، على هذا؟ عندما يفترض الرئيس أن على ما سمّاه المجتمع الدولي أن يقوم بواجبه في هذا الخصوص، غالبا سيعصى عليك تعيين المدى الذي بلغتاه، ركاكة السياسة وعطالتُها، في أداء المؤسّسة الرسمية الفلسطينية. أما عندما يتخيّل أن الاتحاد الأوروبي يمون على دولة الاحتلال من أجل أن تأذن للمقدسيين الانتخاب فإن سويداء حادّةً ستغشاك من فرط الرثاثة التي يقيم فيها أصحاب القرار الفلسطيني.

أما إذا قلّبت ما تقرّر في اجتماع عباس مع من اجتمع بهم، في رام الليلة قبل الماضية، على وجهةٍ أخرى، ورأيتَ، مثلا، أن الرجل أكثر العارفين بإسرائيل، ولمّا أبلغوه أن الجناح الذي يقوده في حركة فتح لن يُحرِز عدد المقاعد في المجلس التشريعي الذي يظنّ أنها تليق بالحركة القائدة، وجد إرجاء الانتخابات عن موعدها المعلن حلا، بل خيارا وطنيا إذا ما تغلّف بذريعة القدس. إن كان حقا هذا ما راود الرئيس ومحيطين به، فإن درايتك بالعربية، أيا كانت سعتُها، لن تُسعفك (مرّة أخرى) بالنعت الأدق لترمي به احتيالا مقيتا كهذا. وهنا، لن يكون في مكنتك تعيين أرطال الركاكة والرثاثة في أداء ما يسمّيها الإعلام، خطأ، القيادة الفلسطينية. ويصبح عليك أن تفتش عن أسلم المفردات لإبداء التعاطف مع الشعب الفلسطيني العظيم من فداحة ما يرتكبه الناس المتحكّمون بقراره الوطني.

بإيجاز، ومن دون استغراقٍ في لعن الرداءة المتوطنّة في صناعة القرار الفلسطيني، أضاع محمود عباس، وفريقه، فرصةً على الشعب الفلسطيني، سيما من أهل القدس، كان في الوسع أن تكون لحظة صدامٍ متعدّد الأساليب مع دولة الاحتلال. ولا يجيز صاحب هذه الكلمات لنفسه أن ينوب عن ناس القدس الصامدين المرابطين، فيعطيهم دروسا بما في مقدورهم أن يفعلوه، ولكنها الثقة في إمكانات شعب فلسطين تحت الاحتلال، ومنهم أهل المدينة المقدّسة، تجيز توقع أشكالٍ من الإبداع في طرائق الكفاح المدني والأهلي في مواجهة قرار المحتل مصادرة إرادتهم، وقد دلّت غير موقعة وواقعة عليهم شجعانا. لو وصلت صناديق الاقتراع إلى حيث كان يلزم أن تكون في أحياء المدينة، وأقدم المحتلون على تخريب التصويت، فإن فصلا من جولات الصراع المديد مع هؤلاء سيستجد، وسيصنع المقدسيون، شبّانا وشيوخا، نساء ورجالا، مأثرةً مضافةً في تثبيت مواطنتهم فلسطينيين في عاصمة وطنهم المحتل. لا ندري ماذا كان سيصير بالضبط، لكن أسوأ الاحتمالات سيكون أنفع بما لا يُقاس مما أحدثه من شِقاقٍ وخرابٍ قرار تأجيل الانتخابات بانتظار موافقة المحتلّ على إجرائها في القدس. كان الذي سيصير من إشراقاتٍ كفاحيةٍ، مدنيةٍ وسلميةٍ في جوهرها، مناسبةً لتظهير الحق الفلسطيني مجدّدا في العالم، سيما إذا ما تكاملت معها جهودٌ إعلاميةٌ وسياسيةٌ ودبلوماسيةٌ نشطة، تديرها عقولٌ تعرف جيدا كيف تُخاض معارك الصورة والميديا ومخاطبة العالم، عقولٌ ليست كالمصابة باليباس والبلادة، لا يعرف أصحابها من السياسة غير الأسفار المرتجلة، وإلقاء الكلمات الشاحبة في منابر دولية وازنة، والارتهان لقرارات موظفين من درجاتٍ دنيا في أجهزة المحتل الإسرائيلي، ومناشدة هذه العاصمة الأوروبية أو تلك في هذا الشأن وذاك.

لم يكن منتظرا من الانتخابات المؤجّلة (إلى متى؟) أن تحرّر فلسطين، ولم يكن متوقعا أن تنهي الانقسامات البائسة، ربما كان الوضع الفلسطيني سيعبر بها إلى طورٍ مستجدٍّ من التكاذب الذي نشط أخيرا، ثم انتكس الليلة قبل الماضية. ولكن الانتخابات لازمة، واستحقاقٌ مطلوب، وكانت ستمثل اختبارا للتعرّف على بعض الأوزان والحجوم، واستكشافا لأوهامٍ ونرجسياتٍ متورمةٍ، وكانت أيضا ستكون جولةً وطنيةً فلسطينيةً عنوانها القدس. ولكن، ماذا تصنع وفي القيادة الفلسطينية، وهذا مسمّاها إجرائيا، كل الرثاثة التي نرى؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.