الفيدرالية مخرجاً للطغمة الأسدية

الفيدرالية مخرجاً للطغمة الأسدية

23 ابريل 2021
+ الخط -

تعكس كثرة الحديث بين النخب السياسية السورية عن ضرورة الفيدرالية، وإبراز حسناتها واعتبارها شرطاً للديمقراطية، وحماسة الاستشهاد بالدول الفيدرالية الديمقراطية مثل الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا...، للتدليل على أن الفيدرالية تترافق بالديمقراطية (تستبعد روسيا مثلاً من الاستشهاد وكذلك الاتحاد السوفييتي قبلها، وفنزويلا والسودان والصومال والعراق... إلخ)، نقول يعكس هذا الحماس "الفيدرالي" تحوّلاً في طبيعة الصراع في سورية، من كونه ثورة، أو صراعا يحرّكه المطلب الديموقراطي بين شعب ونظام مستبد، إلى كونه صراعاً بين قوى أمر واقع ذات كيانات "دولتية" مستجدّة ومستبدّة، بطبيعة الحال، ونظام مركزي. مع هذا التحول، من الطبيعي أن يتفوّق المطلب الفيدرالي على المطلب الديموقراطي الذي تبعثرت القوى صاحبة المصلحة فيه (الشعب السوري المشرّد والمقموع في كل مكان)، فيما تحضر بكثافة القوى صاحبة المصلحة باللامركزية السياسية أو بالمطلب الفيدرالي، ليس لأن هذا المطلب مدخل إلى الديمقراطية، كما يمكن أن يقال للتشويش، بل لأنه يمكن أن يطوّب لهذه القوى "غير الديموقراطية" سلطانها على مناطق سيطرتها.

لا يصبّ كلامنا هذا في رفض الفيدرالية أو قبولها، بل في محاولة تبيُّن دلالة غلبة هذه الفكرة وسخونة طرحها في المجال السياسي السوري، في حين أن الوجع الذي أخرج السوريين إلى الشوارع كان الاستبداد وغياب القانون والفساد أو، باختصار، سيطرة طغمةٍ على جهاز الدولة. لماذا يجري اليوم التركيز على الفيدرالية التي لا تعني، بحدّ ذاتها، حلاً لأي من المشكلات والأوجاع التي خرج السوريون لمعالجتها؟ لماذا تتراجع عموم النخب السياسية المعارضة، وتستعد للقبول بمجلس عسكري، يعني القبول به تجميد المطلب الديموقراطي، فيما يطفو على السطح المطلب الفيدرالي؟

شكل الحكم والإدارة وتوزيع السلطات والموارد الطبيعية والعلاقات بين المركز والمحيط... إلخ، من القضايا التي تحتاج إلى نقاش وتوافق

مرة أخرى، لا يعني كلامنا أننا لا نعي تعقيد الوضع السوري، ولا نعي أن المطلب الديمقراطي حلمٌ يفصلنا عنه مستنقع يتعين علينا الخوض فيه، مستنقع من الانقسامات السياسية والمجتمعية ومن الأزمات الاقتصادية وانتشار الفصائل والمجموعات المسلحة والخراب... إلخ، وأن عبور هذا المستنقع يحتاج إرادة سياسية غير مشتتة، وحزما لاستعادة الشروط الأولية لمعنى بلد موحد. لا يصعب فهم هذا بالتأكيد، ولكن لماذا لا تنعكس هذه المقدمات نفسها على المطلب الفيدرالي؟ لماذا يبدو المطلب الديموقراطي معيقاً لاستعادة وحدة البلد الجغرافية والسياسية، فيما لا تبدو الفيدرالية كذلك؟

لا يقتصر ترويج الفكرة الفيدرالية على المحيط الإعلامي والسياسي والثقافي لقوى الأمر الواقع (ما عدا النظام السوري حتى الآن) التي تتقاسم الأرض السورية، وتطمح إلى ترسيخ حدودها ووجودها وترسيمها، بل يشمل أوساطاً بعيدة أو مستقلة عن هذه القوى.

بالتدقيق نجد أن تصوّر الفيدرالية غير متفق عليه بين من يطرحونه. هناك من يريده حلاً لمشكلة "الأقليات"، فيقترح فيدرالية على أساس قومي ومذهبي، (هذا طرح المحيط السياسي للقوى المشار إليها)، وهناك من يطرح الفيدرالية (يفضّلون تسميتها اتحادية) على أساس جغرافي، أي إعطاء المحافظات (مع تفضيل تسميتها ولايات) استقلالية كبيرة (هذا طرح أوساط مستقلة عن هذه القوى).

الطرح الفيدرالي على أساس قومي ومذهبي مرشّح أن يكون مخرجاً تسووياً احتياطياً لطغمة الأسد

 

من نافل القول إن شكل الحكم والإدارة وتوزيع السلطات والموارد الطبيعية والعلاقات بين المركز والمحيط... إلخ، هي من القضايا التي تحتاج إلى نقاش وتوافق وحلول يكون للشعب السوري أو لممثليه المنتخبين دور في تقريرها، ولكن هذا غير ممكن، إلا بعد تفكيك سيطرة الطغمة الأسدية على الدولة السورية. على هذا، الحديث عن فيدرالية (اتحادية)، أو عن أيٍّ من درجات اللامركزية على أساس جغرافي، سابق لأوانه، ولا يحوز أولوية، ولا يمكن التقرير فيه قبل تحرير الدولة السورية (جزئياً على الأقل) في سياق عملية إرساء نظام حكم ديمقراطي.

أما الكلام عن أساس قومي ومذهبي للفيدرالية، وهو برأينا الدينامو الأساسي الذي يحرّك هذا المطلب، (يمكن الانتباه إلى أن الفيدرالية العراقية التي أقرّها الدستور في 2005 لم تطبق سوى في إقليم كردستان العراق، ولم تعد بالخير المأمول على قاعدة الشعب العراقي، ولم تكن مدخلاً إلى ديموقراطية فعلية، لا في العراق، ولا في الإقليم الكردي)، فإنه ينطوي على إمكانية أو احتمال تواطؤ مع الطغمة الأسدية وحماتها الخارجيين. أساس هذا التواطؤ إمكانية تعايش سلطات الأمر الواقع الحالية في سورية، وفق توزيع للسلطات يتم الاتفاق عليه بينها، ذلك أن هذه الفيدرالية لا تستدعي "إسقاط النظام" أو تفكيك قبضة الطغمة الأسدية عن الدولة السورية، إنها تستدعي فقط قبول هذه الطغمة بالتعايش مع السلطات المشابهة لها في الطبيعة، في شمال شرق سورية وشمال غربها وجنوبها، بعد الاعتراف المتبادل فيما بينها.

يضمر تقديم المطلب الفيدرالي على الديموقراطي، كما نشهد اليوم، فتح نافذة نجاة للطغمة الأسدية

 

الطرح الفيدرالي على أساس قومي ومذهبي مرشّح أن يكون مخرجاً تسووياً احتياطياً لطغمة الأسد، فقد يكون في هذا الطرح فتح صفحة جديدة للطغمة الأسدية، على عكس التبشير الديموقراطي لدعاته. ومن غير المستغرب أن تتحوّل سلطات الأمر الواقع في إدلب والقامشلي ودرعا، إذا تلقت وعداً بترسيم وضعها الحالي في إطار دولة فيدرالية، إلى أعوان للطغمة الأسدية، يخرجونها من عنق الزجاجة، وتخرجهم من حالتهم غير الرسمية، ويشمّرون عن زنودهم معاً للانتهاء من دفن المطلب الديموقراطي الذي حرّك السوريين ذات يوم إلى الثورة.

عندما نرى مشكلة النظام السوري في مركزيته نرى الحل في المطلب الفيدرالي أو في درجةٍ ما من اللامركزية. وإذا كان المطلب الديموقراطي يعني تفكيك النظام، بحكم الضرورة، فإن النظام يمكنه استيعاب المطلب اللامركزي، وصولاً إلى مطلب الفيدرالية، ويمكنه التكيف معه. على هذا، يضمر تقديم المطلب الفيدرالي على الديموقراطي، كما نشهد اليوم، فتح نافذة نجاة للطغمة الأسدية.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.