الفلسطينيّ العائد

02 فبراير 2025
+ الخط -

مشهدٌ حلمَ به كثيرون ولم يتوقّعه أحد. مشهدُ الاثنين (27 يناير/ كانون الثاني 2025). مئات آلاف من الفلسطينيّين يعودون إلى ما تبقّى من بيوتهم. يعرفون أنّها ليست العودة الكبرى. أنَّ من دون الغدِ والبيتِ المزيدَ من حقول الألغام وكمائن الغدر والتوحّش والتصفية. أنّ بيوتهم اليوم أنقاضٌ تتكسّر على أنقاض، لكنّهم يتّجهون إليها، مبتكرين في كلّ محنة أسباباً جديدة للأمل. مشهدٌ اكتسب الكثير من أبعاد التراجيديات الأسطوريّة. الفلسطينيّ العائد مكذّباً "الغويي التائه". والتعبير للكاتب الروماني إميل سيوران (1911-1995)، من كتابه "الدفاتر" (غاليمار، باريس، 1997)، حيث روى أنّه أسرَّ مرّةً إلى أحد أصدقائه بعشرته الطويلة مع الفنادق، وبعجزه عن التجذُّر في المكان، فشبّههُ صديقه "بالغُويي التائه". كلمة تُجمَعُ على غوييم Goyim وتعني في العبريّة الغريب والأجنبيّ، وأصبحت علامة على الأغيار، أي على كلّ من هو غير يهوديّ.

بذلت الصهيونيّة العالميّة كلّ جهدها كي تترجم هذه القصّة إلى أسطورة عودةِ شعبٍ بلا أرضٍ إلى أرضٍ بلا شعب، من دون أن تفلح، بل بدا كلّ ما حاولتهُ في هذا السياق سطوراً من الطبشور الدامي على سبّورة التاريخ، مرّ عليها صمودُ الشعب الفلسطيني بهذا المشهد المهيب. ظهرت هذه القصّة في القرن السادس الميلاديّ، ضمن مجموعة من الحكايات الديريّة. قصّة رجل حُكم عليه بالعيش حتى يوم القيامة، لأنه قسا على يسوع في زمن آلامه. وقيل إنّه نهَر المسيح قائلاً "اذهب من هنا!"، فردّ عليه "أنا ذاهب، لكن عليك أن تنتظرني حتى أعود". ... هكذا ولدت أسطورة اليهوديّ الملعون الذي حكم عليه بالخلود، حيث لا مكان ولا سلام، بسبب عربدته وافتقاره إلى الرحمة. وتقول إحدى صِيَغِ الأسطورة إنّ هذا العربيد التائه يعود، كلّ مائة عام، إلى المكان الذي التقى فيه المسيح، فيبحث عنه من دون العثور عليه، ويستأنف الرحلة.

حاولت الصهيونيّة، مدجّجةً بترسانة الغرب المتوحّش، أن تترجم أسطورة اليهوديّ التائه، إلى واقع اليهوديّ الذي ظفر بأرض المَعاد، لكنّها لم تستطع أن "تُؤسطر" الدفاع عنها. ظلَّ تشبُّثُ مُنتسِبِ الكيان بالأرض مجرّد صفقة تجاريّة، مشروطة بمقابل ماديّ، من ضمن منظومة من الإغراءات والحوافز والإعفاءات الضريبيّة والهبات العينيّة، لكن ما إن تدوّي صفارات الإنذار، حتى ينتفض مثل أيّ مرتزق، ويترك البلاء لأهل البلاء، طائراً في اتّجاه أوروبا وأميركا.

ليس صعباً أن نرى مشهد عودة الغزّاوييّن إلى الشمال يفكّك هذه الأسطورة ويعيد شحن مفرداتها بدلالاتٍ لن تُنسى، مهما كانت مآلاتُ الأحداث: صهيونيُّ اليوم محلَّ عربيد الأمس. الفلسطينيّ محلّ الفادي. الصهيونيّ التائه، رمز الاحتلال والتدمير والاغتصاب والغدر والإبادة والخروج من إنسانيّة الإنسان، وفي المقابل، الفلسطينيّ المصرّ على التحرّر. الفلسطينيّ العائد إلى البيت، الذي يعرف ما ينتظره من ركام وما يتربّصُ به من خيبات، لكنّه يتقدّم من بيته المهدّم، خارجاً من جحيم الجوع والبرد والتنكيل والتدمير والشماتة والإبادة، ولا سقف له غير علَم بلادِه.

لا مكانَ تلقّى ما تلقّته فلسطين من قذائف، جُرِّبت لأوّل مرّة في تاريخ الكوكب. لا أحد يحسّ بما يحسّ به الفلسطينيّون. لا أحد يعلم علم اليقين بما يختفي خلف يومهم وغدهم. ثمّة وحوشٌ مستعدّةٌ دائماً لاستباحة ما لا يستباح في هذا الفضاء "الهوموساكير". لكن ثمّة في هذا المشهد ما يبشّر بالانتصار، مهما استغرق من الوقت، والثمن الباهظ، بالقياس إلى ازدهار سوق الخذلان والتصَهْيُن العالميّين في هذه المرحلة. ولن نخطئ إذا توقّعنا لهذا المشهد أن يفعل فعلَهُ في العقول والوجدان. مشهد البيت الذي سُوِّيَ بالأرض، والفلسطينيّ العائد إلى البيت، على قدميه، أو بقدم ونصف قدم، أو محمولاً على عنق أُمٍّ أو على كتفِ رفيق. وإذا لم يعُد هو، عادت سنابل من حقائق الأرض وحرائقها المزروعة في الواقع. جموعٌ تزحف في اتّجاه الحلم الذي هدّمه إجرام التوحّش وخذلان الإشاحة، لكنّه ظلّ حيّاً في سهامٍ بشريّة منطلقةٍ بين قوسين: البحر والركام، يرميها إصرارها على الحرية والكرامة، وتحرّكها طاقةُ الظمأ إلى البيت، وإذا هدموا البيت، بحثت عن فكرة البيت، وليس أمامها إلّا أن تلملم شظاياها وأن تواصل المشي وتسأل:

"هل يئسنا؟

يئسنا إلى آخرِ اليأس، يا كَم

يئسنا إلى أن يئسنا من اليأس،

لم يبق في الأُفْقِ إلاّا الأمَلْ..."

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.