الفساد في قطاع التعليم الموريتاني

الفساد في قطاع التعليم الموريتاني: الأسباب والأعراض... والممارسات الناجحة

28 نوفمبر 2022

علم موريتانيا يرفرف أمام مدرسة في قرية تيرجيت (24/12/2017/Getty)

+ الخط -

الفساد استنزاف كبير للاستخدام الفعال للموارد من أجل التعليم، ويجب كبح جماحه بشكل جذري" (لجنة صياغة منتدى التعليم في العالم، داكار، أبريل/ نيسان 2000).

أكّدت دراسات عديدة أجرتها منظمة الشفافية الدولية، بوضوح، التأثير السلبي للفساد في التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبلدان. وكان قد لوحظ أن الفساد يزيد من تكاليف المعاملات، ويقلل من كفاءة الخدمات وجودتها، ويشوّه عملية صنع القرار، ويُقوّض القيم الاجتماعية. وقد أجريت استطلاعات، أخيرا، عن تأثير الفساد على توفير الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك التعليم، وبالتالي، تشير، على سبيل المثال، إلى المدفوعات غير القانونية للالتحاق بالمدرسة وغيرها، وتساعد التكاليف الخفية في تفسير انخفاض معدّلات الالتحاق بالمدارس في البلدان النامية. ولا تزال الرشوة منتشرة إلى حد كبير حيث "تواجه شركة واحدة من كل ست شركات (20%) طلبات دفع رشوة من المسؤولين الحكوميين، على أساس بيانات مسح المؤسسات الذي شمل 145 دولة خلال الفترة 2006-2021"[1].

في السنة الدراسية 2019-2020، يشمل نظام التعليم في موريتانيا 3422 مدرسة ابتدائية وثانوية، يرتادها 815807 طلاب، ويؤهلهم 15327 من المدرسين[2]. وتتصف موريتانيا بضعف مستويات الالتحاق بمستويات التعليم المختلفة، وخصوصا التعليم المبكر (5%) سنة 2020 مقابل 7% في النيجر، 17% في السنغال، 20% في المغرب، 91% في النرويج. أما نسب الالتحاق بالتعليم العالي فهي منخفضة، حيث لا تتعدى 6% مقابل 39% في المغرب و51% في الجزائر و31% في تونس لسنة 2021[3]. وقد بلغت نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم 1.8% من الناتج القومي الإجمالي لعام 2018، و10% من الإنفاق الحكومي لسنة 2020[4].

وفي الوقت ذاته، بلغت نسبة النجاح في البكالوريا أقل من 10% خلال السنوات القليلة الماضية، بالمقارنة مع أكثر من 50% قبل استيلاء الجيش على الحكم في  يوليو/ تموز 1987[5].

تعدّد أهداف المؤسسات التعليمية والإفراط في المركزية أو اللامركزية في عمليات صنع القرار غالبًا ما تجعل القواعد المؤسّسية غامضة للمستفيدين وعامة الناس

في الأسباب

يلجأ الأفراد إلى الفساد عندما يكون مردوده أعلى من كلفته. ووفق هذا النموذج، ترجع أسباب الفساد في قطاع التعليم إلى: ارتفاع نسبة العائد، فالذين يأملون الحصول على وظيفة جيدة الأجر من خلال الشهادات التعليمية يكونون على استعداد لدفع رشى أو الانخراط في ممارسات فاسدة أخرى، لتحسين سجلاتهم على الورق أو الحصول على مؤهل رسمي. ومن الأسباب انخفاض رواتب الموظفين العموميين والمعلمين في بعض البلدان، حيث أظهر كيف أدّى خفض الأجور بنسبة 25% بسبب التقشف لجميع المعلمين إلى مزيد من الغش في الامتحان الوطني. ضعف المعايير الأخلاقية وغياب سيادة دولة القانون، ففي الأماكن التي ينتشر فيها الفساد على نطاق واسع، تقل المقاومة الأخلاقية للانخراط في الفساد بشكل كبير. تعقيد منظومة التعليم والافتقار إلى الإدارة الشفافة، حيث إن تعدّد أهداف المؤسسات التعليمية والإفراط في المركزية أو اللامركزية في عمليات صنع القرار غالبًا ما تجعل القواعد المؤسّسية غامضة للمستفيدين وعامة الناس. أضف إلى ذلك حجم التعليم وتوزيعه، حيث تمثل المدارس والموظفون والإدارات المصاحبة موارد تنتشر عادة عبر طول البلدان وعرضها. وهذا يجعل تعقب الموارد أكثر صعوبة والإشراف على السلوك المرشّح للفساد أكثر تعقيدًا. ويمكن التعبير رياضيا عن الفساد بالمعادلة التالية: حيث C, M, D, A ترمز من اليسار إلى اليمين إلى الفساد، احتكار السلطة، قرارات الموظفين، المحاسبية .  

 [6]Corruption (C) = M (Monopoly Power) + D (Discretion by officials) – A (Accountability).

ومن الأسباب الخاصة بتطور الفساد في موريتانيا عدم استقرار الحكومات، نتيجة الانقلابات العسكرية التي بدأت 1978 إلى سنة 2008، وما ينجم عن ذلك من عدم استقرار واستمرار في رؤية ناضجة لقطاع شديد الحساسية كالتعليم. كما أن عدم استقرار الهياكل التنظيمية لوزارة التعليم، وما عرفته من تفكيك تارة وتركيب تارة أخرى وتغيير في شاغليها لم يساعد القطاع في التقاط أنفاسه في ظل التراجع والتحدّيات التي يشهدها التعليم في العالم مع محاولة الانتقال من الثورة الصناعية الثالثة، حيث التقنيات الحديثة إلى الثورة الصناعية الرابعة الرقمية وما يرافقها من متطلبات، يفرضها سوق العمل من ناحية، وعولمة الحياة من ناحية أخرى، وتكيف مؤسسات التعليم والتدريب مع هذا الوقع.

مجالات الفساد

كثر الحديث عن فساد التعليم في وسائل الإعلام الحرّة، وفي مداخلات النواب في البرلمان. كما تناولته تقارير محكمة الحسابات، ومن أمثلته مؤسّسة تعليمية تنفق إنفاقا كبيرا على المحروقات، مع العلم أنها لا تملك سيارة واحدة. وكانت مجالات الفساد لا تختلف عن نظيراتها في العالم، حيث تركّزت، بشكل عام، في الصفقات وإدارة الموارد البشرية، وإنْ تشمل، بشكل خاص، بناء المباني المدرسية وإعادة تأهيلها، التجهيزات والكتب المدرسية والغذاء، إدارة شؤون المعلمين، والامتحانات والشهادات، نظم المعلومات، البدلات، والتمويل. سقوط حجرة دراسية على من فيها من الطلاب قبل أسابيع في ولاية الحوض الشرقي دليل قاطع على هذا، حيث توفي أحد الطلاب وجرح آخرون، عندما كانت الحجرة تخضع لعملية صيانةٍ لا تتوخّى المعايير المهنية التي يعتبر أقلها أن تتم العملية خارج وقت الدراسة. ويدخل في هذا الواقع تداخل عوامل، كالقبلية والجهوية والعرق وفوضى التقرير العشوائي والإصلاحات الارتجالية والتأثيرات السياسية وضعف الرقابة والمتابعة والتقييم من القائمين على العملية التربوية.

تؤثر الممارسات الفاسدة تأثيرا بالغا على إيصال خدمات التعليم وجودتها وتمويلها وحوكمتها

الممارسات الفاسدة وآثارها

تشمل الممارسات الفاسدة في التعليم الاحتيال في المناقصات العامة ومنحها لغير مستحقّيها من منتحلي المقاولة، الاختلاس وتجاوز المعايير من خلال نفخ الفواتير والمحسوبية وتقديم الرشى والمعلمين الأشباح والمدارس والكفالات الوهمية وبيع المعلومات والاحتيال الأكاديمي وتزوير البيانات وخرق مواثيق الأخلاق وتجاوز المعايير وانتهاك القواعد والإجراءات. لعل من أكثر الممارسات الفاسدة انتشارا غياب المعلمين إلى درجة أن الوزارة المعنيّة قرّرت نشر لوائح المعلمين المتغيبين في صحيفة الشعب الحكومية واسعة الانتشار.

ومن الممارسات الفاسدة كذلك التلاعب بأعداد التلاميذ، طمعا في زيادة مخصّصات المواد الغذائية الموجهة، في الأصل، إلى الطلاب في المدارس الريفية. أما الغشّ في الامتحانات فقد تطوّر كثيرا، وشارك فيه المعلمون وأولياء الأمور والمراقبون، وحتى السلطات الإدارية في بعض الأحيان. وقد أصبح من المعتاد أن تقطع السلطات الإدارية الإنترنت عن المنطقة الجغرافية التي يوجد فيها مركز إجراء الامتحان بالتعاون مع شركات المواصلات.

تؤثر الممارسات الفاسدة تأثيرا بالغا على إيصال خدمات التعليم وجودتها وتمويلها وحوكمتها. ويختلف التأثير حسب المجال، ففي البنية التحتية ينال التأثير الخريطة المدرسية، حيث اختيار الموقع السيئ للمدارس، وما ينجم عن ذلك من عدم كفاءة في استخدامها. أما الكتب المدرسية فتشهد اختفاء قبل وصولها إلى وجهتها المفترضة، وما يترتب على ذلك من ضعف في التحصيل المدرسي لدى الطلاب، وما يقود إليه من رسوب وتسرّب، حيث بلغت نسبة التسرب إلى غاية السنة الأخيرة الإعدادية 28% سنة 2016، 14% في السنة الأولى من التعليم الإعدادي، 8% في السنة الخامسة من التعليم الابتدائي للسنة ذاتها. وقد بلغت نسبة غياب المعلمين 35% في سنة 2018.

من المعروف في الأدبيات التعليمية المختصة ما يمثله الدور المركزي للمعلم في عمليتي التعليم والتعلم

وبالنسبة للمعلمين يشمل الفساد طريقة تعيينهم وتدريبهم وتأطيرهم وترقيتهم ومكافأتهم، حيث يعيّن معلمون قليلو الكفاءة، ومن المعروف والثابت في الأدبيات التعليمية المختصة ما يمثله الدور المركزي للمعلم في عمليتي التعليم والتعلم. ولا يخفى الأثر السلبي لتسرّب المواد الغذائية الموجهة إلى منتسبي الكفالات المدرسية وحرمان مستحقيها منها وتوجيهها إلى وجهة أخرى لا تخدم العملية التعليمية. ولا يقل مجال المعلومات أهمية، حيث يتم تزوير المعلومات وتسريب الامتحانات وبيعها، ما يترك أثرا سيئا على سمعة المدارس، وما ترمز له من قيم وأخلاق. ومن أمثلة ذلك تضخيم أرقام القيد لزيادة التحويلات المالية أو مخصّصات المواد الغذائية الموجهة إلى الكفالات المدرسية. ويأتي الفساد في المجال المالي ليبين خطورة تحويل وجهة الأموال، وما يترتب عليه من نقص في الوصول إلى خدمات التعليم وفق معايير الجودة المطلوبة.

الممارسات الناجحة في محاربة الفساد والرشوة[7]

مع أن الفساد عمّت فيه البلوى في مجال التعليم في موريتانيا، إلا أن هناك ممارسات فضلى جرّبتها دول كثيرة لمواجهة هذا البلاء، منها استخدام أدوات كشف الفساد والرشوة المعتمدة عالميا في التعليم، مثل المراجعات المادّية لعمليات التعليم التي تتضمّن عمليات تفتيش مفاجئة في المرافق التعليمية للتحقق من قيام المديرين والمعلمين بواجباتهم؛ استبيانات تتبع الإنفاق العام (PETS) التي جرى تطويرها في الأصل في البلدان النامية، حيث تسمح بتتبع التدفقات المالية من الجهة المانحة أو الحكومة، وصولاً إلى المستفيد المقصود؛ استخدام مقاييس غير مباشرة مبنية على الفروق بين الأداء المبلغ عنه والفعلي (المراجعة الشاملة). وتشمل هذه الأساليب المبتكرة لتقييم نتائج التعليم الفعلية ومقارنتها مع النتائج المبلغ عنها:

شفافية المعايير والإجراءات، حيث نشرت مدينة بوغوتا في كولومبيا أوصافًا محدّدة لإجراءات التوظيف والتعيينات ومعايير النقل، والتي "عزّزت الالتحاق بالمدارس بأكثر من الثلث، مع إضافة عدد محدود من المعلمين الذين جرى اختيارهم على أساس  الكفاءة.

المراقبة المصحوبة بالحوافز أو العقوبة، ففي الهند، مثلا، أدّت زيادة رواتب المعلمين ومراقبة الحضور بكاميرات مقاومة للعبث إلى تقليل نسبة تغيب المعلمين.

التحرّكات المدنية أكثر ملاءمة للعدالة التصالحية مقارنة بالملاحقات الجنائية، وهنا يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورا مهما في مؤازرة أصحاب الحق

بناء القدرات وأتمتة الإدارة، ففي لبنان، تم نقل إدارة الامتحانات ليتم التعامل معها بواسطة أجهزة الكمبيوتر واستخدام الأتمتة فيما يتعلق بأمور، مثل الاختبار واختيار الموظفين، ووضع المرشّحين للاختبار في غرف الاختبار، وعلامات الاختبار ومعالجة النتائج، ما سمح للنظام باكتشاف هؤلاء ومعاقبتهم.

الحق في الحصول على المعلومات، ففي أوغندا، حدّدت استطلاعات تتبع الإنفاق العام (PETS) أنه في المتوسط، تم اختلاس 49% من المنحة المدفوعة للمدارس الابتدائية. الفحص الدقيق لرسائل الدكتوراه لسياسيين وأكاديميين ألمان سنة 2011  أدى إلى سحب بعض الشهادات واستقالة حامليها من مناصبهم، ومنهم وزير الدفاع الألماني السابق كارل - ثيودور تسو جوتنبرغ.

وهناك تجربة بيرو، بشأن قوانين الوصول إلى المعلومات التي يجب أن تستعمل بشكل واسع. وقد لاحظ الخبراء في الموضوع أن "ضمان جناح قانون الوصول إلى المعلومات هو مسألة مسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمجتمع المحلي، حيث ينبغي للجميع أن يتحمّلوا مسؤولية مراقبة جهود الحكومة واستخدام قوانين الوصول إلى المعلومات بشكل أفضل في قطاع التعليم.

دعم التحركات المدنية لمواجهة الأخطار المرتكزة على الفساد. كما تم تبيانه أعلاه، يبدو أن أي فرد أو كيان قانوني متأذٍ من فعل فاسد لديه حوافز من أجل البدء أكثر من حوافزه للإبلاغ عن فعل فاسد إلى موظف عام. التحرّكات المدنية أكثر ملاءمة للعدالة التصالحية مقارنة بالملاحقات الجنائية، وهنا يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورا مهما في مؤازرة أصحاب الحق.

قطاع التعليم يشكّل حجر الزاوية في بناء رأس المال البشري الذي هو غاية التنمية المستدامة وموضوعها

مبادرة مجموعة العشرين القائمة على أهمية مجابهة غسل الأموال ومنع المسؤولين الفاسدين من تحريك الأموال في الخارج، وذلك في العام 2010 في "خطة العمل ملاحقة الفساد" التي وضعتها ومن خلال خلق فريق مهمات للإعمال المالية.

الرسوم التعليمية كرشوة يأخذ هذا شكل قيام طرف ثالث (مثلا شركة أو وسيط نيابة عن شركة) بدفع رسوم مدرسة أو جامعة كجزء من الإغراءات للحصول على عقود من وزراء أو مسؤولين حكوميين معنيين. كانت هذه هي الحالة عندما موّلت شركة سكيورنسي رسوم ابن مسؤول فيتنامي في جامعة درم.

خاتمة

لا يزال الفساد مستشريا في قطاع بالغ الأهمية أفقيا وعموديا مثل التعليم، ولكن الإصلاح ومكافحة الفساد والرشوة تبقى السبيل الوحيد للنهوض بالبلد وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخصوصا الهدف رقم 16، غير أن هذا الجهد المستقبلي يجب أن يتركز حول وضع وصيانة أنظمة تشريعية وتقوية الإدارة وتشجيع بناء القدرات في جميع المجالات.

لا ينبغي النظر إلى هذه المكونات بشكل منفصل، ولكن كجزء من استراتيجية متكاملة أوسع، تهدف إلى مكافحة الفساد في قطاع التعليم الذي يشكّل حجر الزاوية في بناء رأس المال البشري الذي هو غاية التنمية المستدامة وموضوعها. ويعتمد نجاح هذه الاستراتيجية في المدى الطويل على عدة عوامل، تشمل الإرادة السياسية القوية، وتقوية المهنيين (المكانة، والرواتب)، ودعم الصحافة الحرّة للإعلان عن المخالفات، وما إلى ذلك.


[2] لا يشمل التعليم قبل الابتدائي ولا التعليم العالي

[4] http://uis.unesco.org/

[7] https://www.transparency.org/ar/publications/global-corruption-report-education