ما من مهرجانِ سينمائيٍّ عربي وأجنبي شارك فيه، أخيرا، فيلم المخرج السوري، أمير فخر الدين، "الغريب"، إلا ونال جائزة، منها لأفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. لافتٌ أن إحداها جائزة شادي عبد السلام لأحسن فيلم في مسابقة أسبوع النقاد الدولية في القاهرة. وعندما تحمل جائزةٌ هذا الاسم لك أن تحْدِس أن الفيلم الذي يُحرزها إنما يتّصف بشيءٍ من سينما هذا المخرج المصري الفريد، المقلّ، الحرّيف. وفي الوُسع أن يُجتَهَدَ فيُقال إن فيلم فخر الدين موشّى بأنفاسٍ من صنعة شادي عبد السلام، من قبيل إنه لا ينهض على حدّوتةٍ أو حكايةٍ أو قصة، إنما على تصوير حالةٍ، على تشخيصٍ نفسي وذهني لحالةٍ فرديةٍ، أو عامّة في نحو ما، توازيا مع ما تنطق به الصورة وظلالُها من إيحاءاتٍ، وما تُشيعانه، سيما في تتابع مشاهد ذات محمولاتٍ غير خافية، من أحاسيس دون غيرها، في نظّارة هذا الفيلم الذي يُخبرنا مخرجُه بأنه الأول في ثلاثيةٍ يعكف على إتمامها. وتفصيلا، ثمّة صور على قسطٍ من العتمة، أو الضوء القليل. ثمّة صمتٌ كثير، ومقادير من سوء التفاهم أو انعدامه، وأصواتُ حديدٍ ومركباتٍ عتيقة، وتوتّر باد في الإيقاع العام. ليس من ضحكةٍ أو ابتسامةٍ عابرة، وإنما كلبٌ أعرج يرافق البطل. ثمّة مكانٌ منبسطٌ في خارج غرف البيوت البسيطة القديمة، أو حظيرة البقر، أو الدار التي في جُردٍ في طرفٍ ما. مكانٌ هو الفضاء الفسيح، المسيّج بأسلاك شائكةٍ، وحيث جنودٌ غير ودودين، ودورياتٌ عسكريةٌ تتحرّك هنا وهناك. ولا تحتاج إلى جهدٍ خاصٍّ لتعرف أنك ترى الجولان، الهضبة السورية المحتلة، قرية مجدل شمس وبعض جوارها، ولتلحظ عيناك احتلالا ومحتلّين، إسرائيل وأهل المكان السوريين.
يؤالِف المخرج بين صور داخلٍ مغلقٍ شبه معتمٍ وخارجٍ على علوّه الغيم، مفتوحٍ منكشف، مظللٍ بشتاءٍ يُخفي شمسا خجولة، ومع القلق الذي جعله تضجّ به وجوه الشخصيات القليلة في قصة الفيلم غير الظاهرة تماما، فتستشعر أنه (المخرج) يختبر ممكناتِه وقدراتِه في إنجاز فيلمٍ يعمد إلى "التجريب"، إن أجاز لنا، نحن أصحاب التعاليق السيّارة، زملاؤنا كتّاب النقد السينمائي، قولا كهذا، التجريب الذي يقوم على لا مقدماتٍ لحالة الشخصية الفلانية، ولا تلك، كما تراها على الشاشة. .. لماذا هذه العبثية في عدنان، الشخصية الرئيسية (إلى حد ما) في الفيلم؟ ما الذي يجعله في حالة سكرِ غالبا؟ لماذا ترك دراسته الطب في موسكو؟ هل هو كافٍ أن "طعم شجرة التفاح يتغيّر عندما تنبُت في غير تربتها" سببٌ في عدم استجابة عدنان لمطلب زوجته الهجرة إلى ألمانيا، أو غيرها؟ وثمّة، من قبلُ ومن بعد، سؤالُك، أنت المشاهد: من هو الغريب في الفيلم الذي يحمل هذا الاسم؟
يُغالب عدنان، الطبيب وغير الطبيب في آن، الكئيب، الفاشل في نعتٍ جائزٍ، الباحث عن خلاصٍ ما من شيءٍ ما، غربةً في المكان. لا يطيقه والُده ويحرمه من الميراث. زوجتُه وابنته بلا حضور خاص في الفيلم. كأن ثمّة موضعا تراجيديا في شخصه، لا نعلم بواعثه الفردية، وإن في الوُسع أن نحسب الشعور بوطأة المكوث تحت الاحتلال سببا موضوعيا. الغريب الجريح الذي يأتي به عدنان، ويحاول علاجه من جروحه، ثم يموت، من دون أن نراه يموت، ومن دون أن نقتنع ربما بموته (ولو أن الأعمار بيد الله) سوريٌّ من الجولان، هاربٌ من الحرب في الداخل السوري، أمكن له أن يتسلّل إلى هنا. ليس الفيلم معنيا ببطولته في هذا. ولا يُريدنا إلا أن نشاهده غريبا عن أهل القرية ومشيختها التي تعدّه شهيدا. كأن مقدارا من تحوّلٍ ما يصير عليه عدنان مع استشهاد هذا الغريب الذي كان يحمل معه صورة بيت جدّه الذي لا يعرف مكانه. لا تميل، أنت المشاهد اليقظ، وعلى بعض الحصافة، إلى اعتبار مسمّى الفيلم يؤشّر إلى هذا الغريب الشهيد، والذي لا يُعرف اسم له، فغريبٌ أيضا عدنان، وغريبٌ أيضا المكان كله، الجولان الذي نسيته السينما الروائية السورية، والعربية، فجاء هذا الفيلم وحيدا من نوعه، ليستحقّ صنّاعُه ومنتجوه، ومنهم شركة ميتافورا، تثمينا واجبا، وكذا أبطالُه، محمد بكري في دور الأب، أشرف برهوم في دور عدنان، وزملاؤهما.
تنتفي عن الجولان المحتل، المكان الذي احتفلت به كاميرا أدارها المخرج السوري الجولاني، أمير فخر الدين، صفة الغريب، عندما تُرشّح وزارة الثقافة الفلسطينية الفيلم (ثمّة مشاركة فلسطينية في إنتاجه) باسم فلسطين في منافسات أوسكار المقبلة، للفيلم الدولي الروائي غير الناطق بالإنكليزية. يقول فخر الدين: "نحن نتشارك المعاناة والانتظار. المعاناة لا تتجزأ. رغم أن الفيلم عن الجولان، إلا أنه عمل عام، ينتمي إلى الوطن العربي" .. جميلٌ هذا الكلام الذي يحسُن عدم حسبانِه غريبا.