الغرب والمسلمون .. وضرورة تصحيح البوصلة

الغرب والمسلمون .. وضرورة تصحيح البوصلة

17 فبراير 2021

(محجوب بن بلة)

+ الخط -

يكشف الغرب، عبر مراجعة قيم المسلمين وسلوكهم، بدلالة قيمه ومعاييره، عن تمسّكه بالمركزية الأوروبية، ورسالة الرجل الأبيض الحضارية، وعن إصراره على مواصلة تغريب العالم، من دون اعتبارٍ لراياته البرّاقة عن الحرية والمساواة وحقوق الإنسان ونبذ الكراهية والتمييز الديني والعرقي. وقد كانت لافتة حدّة التقويمات وقسوتها من "رُهاب الإسلام"، الإسلاموفوبيا، إلى "الانفصالية الإسلامية"، مرورا بتمجيد الاستعمار الغربي ديار المسلمين، والتغني بإنجازاته الحضارية.

على الرغم من تحذيراتٍ من شخصيات إسلامية في دول أوروبية من انتشار "رُهاب الإسلام"، والدعوة إلى التصدّي له، فإن القرائن والدلائل تشير إلى تنامي الظاهرة وتحوّلها إلى سلوك اعتيادي. كان "المجلس الإسلامي في بريطانيا" قد تقدّم، العام الماضي، إلى لجنة المساواة وحقوق الإنسان في مجلس العموم البريطاني بملف يحتوي على ثلاثمائة شكوى من حالات "رُهاب الإسلام"، وقعت في البلاد؛ بينها شكاوى ضد رئيس الوزراء، بوريس جونسون، وأعضاء في حزب المحافظين الحاكم، على خلفية مواقف وتصريحات تنطوي على كراهية للإسلام والمسلمين، وطالب بالتحقيق في هذه الشكاوى من دون طائل. قارن جونسون المسلمات اللواتي يرتدين البرقع بـ "صناديق البريد" و"لصوص البنوك". واعتبر حزب المحافظين تعليقه "محترما ومتسامحا"؛ على الرغم من ارتفاع حوادث الكراهية ضد الإسلام في الأسبوع الذي تلاه بنسبة 375%.

لقد عومل المسلمون، الذين يعود وجودهم في بريطانيا إلى القرن السادس عشر ويشكلون 5% من السكان، على أنهم غير بريطانيين، إنهم الآخر الغريب والمهدد. فقد استبعدوا من حماية قوانين العرق التي توفر الحماية القانونية على أساس الهوية العرقية/ الإثنية، والتي شملت حماية السيخ واليهود، بذريعة أنهم من أصولٍ مختلفة ويتكلمون لغاتٍ مختلفة، وأن الجامع الوحيد بينهم الثقافة الدينية. وكان رئيسا الوزراء السابقان، توني بلير وديفيد كاميرون، وآخرون من رجال السياسة، قد دعوا المسلمين في بريطانيا إلى بذل جهود أكبر للتوافق مع القيم "البريطانية". "دعوات تنطوي على سعي صريح إلى الاحتواء، حيث تتخلى المجموعة المهمشة عن هويتها الخاصة، وتتبنّى هوية المجموعة المهيمنة، من دون أن تضطر الأخيرة إلى تقديم أي تنازلاتٍ ذات مغزى"، وفق الباحث ليون موسافي. وقد كشف استطلاع شركة الرأي العام والبيانات الدولية أجرته عام 2019 عن نسبة عالية من المستجيبين "لا تفضّل الإسلام مقارنة بأي دين آخر".

انفجرت في فرنسا ظاهرة "رُهاب الإسلام" في العقدين الأخيرين، وتحولت إلى ورقة في التنافس السياسي، خصوصا في فترة الانتخابات النيابية والرئاسية

ليس الوضع في فرنسا أفضل، حيث انفجرت ظاهرة "رُهاب الإسلام" في العقدين الأخيرين، وتحولت إلى ورقة في التنافس السياسي، خصوصا في فترة الانتخابات النيابية والرئاسية، استثمرها قادة أحزاب ونواب من كل التيارات؛ وقد زادت نسبتها بعد أن استخدمها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي ذهب بعيدا في استثمارها بتحويلها إلى قانون لمحاربة ما سماها "الانفصالية الإسلامية"، ففي إطار التحضير لإصدار قانون "الانفصالية الإسلامية"، قدّم أعضاء في مجلس الشيوخ الفرنسي 44 اقتراحا لتقييد المسلمين الفرنسيين. وكان لافتا حماسهم لما قامت به لجنة التحقيق التابعة للمجلس عن "الإجابات المقدمة من السّلطات إزاء تطور التطرّف الإسلامي وسبل مكافحته"، التي تشكّلت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، من تعقب للمظاهر الإسلامية، مهما كانت بسيطة وشكلية، في جميع مجالات الحياة: المدرسة، التعليم، الرياضة، العمل، دُور العبادة؛ مع استيائهم من كل ظهور للإسلام، بما في ذلك تعبير الأفراد عن إيمانهم، الذي اعتبره تقرير لجنة المجلس "محاولةً للحصول على اعتراف من المؤسسات والخدمات العامة"؛ ورأى فيه "تعارضا مع قوانين الجمهورية"، علما أن القانون الفرنسي لا يحظر تأكيد المرء إيمانه، كما اعتبر رفض المسلمين المساواة بين الجنسين والمطالبة بوجبات لحم حلال في المدارس، والترشح للانتخابات البلدية والنيابية "انتهاكا لقيم الجمهورية"، "مع أنه يجب النظر إلى الترشّح باعتباره فعلا ديمقراطيا، ودليلا على التوجه إلى الاندماج"، وفق المحامي الفرنسي، رفائيل كمبف، في مقالته: "الانفصالية". إخضاع إسلام فرنسا ومسلميها، موقع "أورينت21": 9/11/2020.

نحن أمام تركة ثقيلة صنعها التنافس والصراع بين الحضارتين، الإسلامية والمسيحية

وكان لافتا ما ساد رد فعل الفرنسيين على طلب الجزائريين الاعتذار عن فترة الاستعمار المديد (132عاما) من حدّة ووقاحة، حيث راح ساسة ومثقفون فرنسيون يمجّدون فترة الاستعمار، ويسبغون عليها صفات إيجابية على طريق تحضير الشعوب البدائية والمتوحشة. حاول الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، في عام 2005، إقرار قانون تمجيد الاستعمار، ففترة الاستعمار، وفق كتاباتهم، نقلت الدول المستعمرة نحو الحضارة عبر إقامة المؤسسات والبنى التحتية والخطط التنموية، وساهمت في نقل قيم الحرية والمساواة والديمقراطية إلى شعوبٍ تفتقر لمثل هذه القيم والمفاهيم والنظم.

هذا غيض من فيض من ما تطرحه تيارات فكرية وسياسية وجهات رسمية في دول أوروبية من النمسا إلى بلجيكا مرورا بهولندا والمجر. .. وتعكس المواقف السابقة تصعيدا في عملية تغريب العالم التي أطلقتها الحضارة الغربية، تجسيدا لانتصارها على الحضارات القديمة، بما في ذلك الحضارة الإسلامية، من دون اعتبار لدلالتها الراهنة ومآلها، حيث قاد تغريب العالم وتطوره إلى انبعاث وعي كوني وحّد العالم من الخارج، وفككه من الداخل، بصعود الهويات، القومية والدينية والحضارية، ما رتب عودة إلى التجاذب الحضاري والقيمي ونمو الحساسيات الأخلاقية والاجتماعية.

تشير مواقف وردود أفعال جماعات وشعوب مسلمة على محاولة تغريب العالم بفرض قيم غربية، إلى دقة التعاطي مع العقائد والثقافات وحساسيته

نحن أمام تركة ثقيلة صنعها التنافس والصراع بين الحضارتين، الإسلامية والمسيحية، بدءا من رفض المسيحية الرسمية والشعبية الاعتراف بنبوة نبي الإسلام، اعتبر مسيحيا مهرطقا، مرورا بالحروب الطويلة والمدمرة بين الطرفين: الفتوحات الإسلامية في أوروبا والحروب الصليبية والتمدّد العثماني في شرق أوروبا والاستعمار الأوروبي الحديث، وقد زادت الطين بلة رعاية الدول الأوروبية المشروع الصهيوني، ودعمها وتأييدها إسرائيل وتجاهلها الحق الفلسطيني. وهذه بالإضافة إلى القراءة السائدة في العالم الإسلامي للنص الديني المؤسس، وترسيخها بمحدّدات ومعايير منهجية وقيمية، مثل تقسيم العالم إلى دارين، "دار الإسلام" و "دار الحرب"، والتوجيه بمقاطعة اليهود والمسيحيين والتعامل معهم باعتبارهم مشركين، وما نجم عنه من عمليات تفجيرٍ وطعنٍ ودهسٍ قامت بها جماعات الجهاد العالمي ... إلخ. قراءة كرّست التقليد والمحافظة. ما أسّس لقيام حواجز نفسية وانعدام ثقة عميق ولمعادلة صراع صفرية: تبنّي قيم محدّدة، يطرحها طرف تجعله منتصرا، وتجعل الطرف الآخر مهزوما. وهذا يستدعي العمل على تفكيك هذه المعادلة، بداية من الطرف الحضاري المسيطر، الغرب، إذا كان حريصا حقا على سيادة السلم والأمن والتعاون المثمر، بعدم رفع رايات التفوق، والتدقيق في ممارساته السياسية والاجتماعية والأخلاقية، والبحث عن تصوّر لمخرجٍ يخفّف من ثقل المعادلة وضغطها على العلاقات بين الحضارات والشعوب، كي يشيع مناخا إيجابيا يشجع بقية الحضارات على التفاعل بإيجابية مع المبادئ والقيم المطروحة، والدخول في حوار مثمر حول قواسم مشتركة، تستجيب لتطلعات الجميع، وتخفف من مخاوفهم وهواجسهم.

لا يمكن أن يقتنع إنسان، مجرد إنسان، بمبادئ وقيم يتصرّف أصحابها على الضد من محتواها، يطالبون بتبنّي مواقف وقيم معينة ويخرقونها في الوقت نفسه. ألم تعلن دول أوروبية، ردّا على طلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أن هذا الأخير "تجمع مسيحي"؟ ألم يقع صراع داخل الاتحاد الأوروبي حول الإشارة إلى الجذر اليهودي - المسيحي لأوروبا في الدستور الأوروبي الموحد، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، كانت من مؤيدي هذا الاقتراح؟ ألا يؤدّي الرؤساء الأميركيون عند تنصيبهم القسم على الإنجيل؟ ألا تقيم الدول الأوروبية الدنيا ولا تقعدها، عندما يتم المسّ برموز يهودية، وتغض الطرف أو تقلل من أهمية المسّ برموز إسلامية؟ ألم تنمّط المسلمين، وتعتبر تصرّفاتهم إرهابا، وتتحاش إطلاق هذا الوصف على ممارسات جماعات يمينية يهودية ومسيحية، على الرغم من طابعها الإرهابي الصريح؟

لافت ما ساد رد فعل الفرنسيين على طلب الجزائريين الاعتذار عن فترة الاستعمار المديد من حدّة ووقاحة

تشير مواقف وردود فعل جماعات وشعوب مسلمة على محاولة تغريب العالم بفرض قيم غربية، إلى دقة التعاطي مع العقائد والثقافات وحساسيته، من جهة، وإلى ضرورة تفهم ردّات الفعل السلبية التي يستثيرها الفرض والإلزام، من جهة ثانية، حيث لا تزال العقيدة الإسلامية، كما البوذية، والهندوسية، والإحيائية، تلعب دورا في تحديد مواقف وممارسات شعوب وجماعات كثيرة وكبيرة، من قضايا القيم والممارسات الاجتماعية، وتجاوزها ليس بالأمر السهل، لما تمثله لأتباعها. تصوّر أن المسلمين الذين عاشوا في ظل مبادئ ناظمة ومصفوفة قيمية محدّدة أكثر من أربعة عشر قرنا، وتأتي ظروف أو قوة خارجية وتفرض عليهم الانتقال إلى مبادئ أخرى وقيم أخرى، بعيدة عما آمنوا به، وتعايشوا معه طوال تلك القرون. الأكيد أنه سيكون لحدثٍ من هذا النوع ردّات فعل سلبية، فقناعات معظم المسلمين وتصوراتهم ما زالت محكومة بقيم ومعايير إسلامية. ومن جهة أخرى، هم يعرفون أن أصل هذه القيم والمعايير المطروحة أوروبي، والأوروبيون في الذاكرة الجمعية الإسلامية قوة استعمرتهم واضطهدتهم وقتلتهم ومزّقت اجتماعهم، بزرع الشقاق بينهم، ونهبت خيرات بلادهم تحت راية الرسالة الحضارية. ليس هذا وحسب، بل حاولت إخراجهم من دينهم بحملات تبشيرٍ منظمّة، حيث كان للاستعمار الأوروبي في بلادهم حضور مثلث الركائز: المبشّر والتاجر والجندي. كما سيأخذ الفرض صفة القسر والقهر، وهذا يتعارض مع روحية القيم الحديثة وهدفها، وينسف المبرّر المعلن لتبنّيها.

هنا تكمن النقطة الجوهرية في البحث عن قيم وممارسات اجتماعية مشتركة، أو متعايشة. هل نسقط هذه القيم على مجتمعاتٍ ليست على استعدادٍ لتقبلها لاعتبارات ذاتية وتاريخية، أم نذهب إلى توافق على أساس الندّية والاعتراف المتبادل بالخصوصيات، والبحث عن تقارب وتقليص الاختلافات والفوارق؟ خصوصا مع استحالة عزل القيم المطروحة عن الصراع الحضاري، ببعديه العقائدي والثقافي، فالقيم والممارسات الاجتماعية تنطوي على دلالات حضارية وعقائدية مضمرة، والقبول بها ينطوي على تحديد المنتصر والمهزوم في معركة الحضارة. وهذا يثير مخاوف وهواجس كبيرة لدى الشعوب والمجتمعات الضعيفة؛ ويقف، إلى حد كبير، خلف عدم تسليم المسلمين بهذه القيم، والاستخفاف بما يقال عن عالميتها. معظم ردّات الفعل العصبية والمتشنّجة، وتشكيل التنظيمات الجهادية تبرّر نفسها، وتستمد وقودها من الخوف من وصمة المهزوم. هنا ثمّة حاجز سميك وراسخ، وفجوة واسعة تحتاج إلى تجسير وردم عبر الاعتراف بالتعدّد الحضاري والتنوع القيمي، وتقدير قيم الشعوب الأخرى وتفهمها واحترامها.