العيون السورية نحو المستقبل

14 ديسمبر 2024

سوريون يحتفلون بسقوط نظام الأسد قرب الجامع الأموي في دمشق (13/12/2024 Getty)

+ الخط -

تعب السوريون من أثقال الحكم العسكري الدكتاتوري، الذي عاشوا في ظله أكثر من 60 عاماً، منها 54 عاماً تحت سلطة عائلة الأسد، التي حوّلت البلد مزرعة خاصة ومملكة للصمت، على حد تعبير الرمز المعارض الراحل رياض الترك. وشكّل سقوط نظام بشّار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي أهم انعطافة في تاريخ سورية الحديث. ويعكس الفرح العارم، من شمال سورية إلى جنوبها، مدى توق السوريين إلى الانعتاق والحياة الخالية من الخوف وسطوة أجهزة الأمن والمخابرات، التي بثت الرعب في المجتمع وكتمت أنفاسه، ومنعته من الحديث بصوت عال، والمطالبة بحقوقه الأساسية التي سلبها قانون الطوارئ سيئ الصيت، الذي فرضه حزب البعث عام 1963، وواصل العمل به، ليُصادر الحقوق العامة والسياسية كافة، ويجمّد القضاء المستقل، ويستبدله بالأحكام العسكرية، كما وضع تدابير استثنائية وقيوداً على حرية الأشخاص، ووسائل الإعلام المستقلة، ومنع حق الاجتماع لأكثر من ثلاثة أشخاص، وتدخل حتى في تنظيم الزيجات.

تلوح اليوم فرصة تاريخية لطي صفحة الماضي الأسود، ويذهب الطموح نحو البناء على الحالة التي شهدتها سورية منذ بدء العمليات العسكرية في حلب في السابع والعشرين من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، ومن ذلك الانضباط الذي تحلت به الفصائل العسكرية في عملها ضمن المهمة المكلفة بها، وعدم التجاوز على المدنيين والأملاك العامة والخاصة والحريات الفردية أو المتعلقة بالأديان والعبادات وممارسة الطقوس. وما يبعث الأمل هو الخطاب العام الذي رافق العملية العسكرية لجهة احترام الحريات ووحدة المجتمع وعدم التدخل في شؤون الناس وخياراتهم السياسية والحياتية أو فرض الإكراه الثقافي والديني والقومي، فسورية بلد تعدّدي متنوّع، وهذا أحد عناصر جماله وقوته ومصادر ثروته ورأس ماله الرمزي الثقافي والاجتماعي، الذي منحه مكانة متميزة على مر التاريخ، وجعل منه مثالاً للتعايش. ولذلك ستكون إحدى أبرز المهام التي يجب أن ينهض بها السوريون عدم تكرار التجارب السيئة، العربية وغير العربية، التي سبقتنا في الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وهذا يحتم أن تكون الأولوية لإنهاء الانقسامات التي كرّسها حكم عائلة الأسد من طائفية وثقافية ومناطقية، والسبيل إلى ذلك أن نجعل من بوصلتنا رفض الثأر والانتقام والإقصاء، وإعلاء وحدة المجتمع وبناء سورية الجديدة المنفتحة على كامل أبنائها.

ليس هذا ضرباً من المبالغة في الحلم، بقدر ما هو رهان مشروع قائم على الرصيد الإيجابي لتجارب السوريين داخل بلدهم وخارجه، حيث يُسجّل لهم أولاً أنهم استطاعوا مواجهة ظروف الحياة في ظل أحد أكثر الأنظمة توحّشاً، ولم تنطفئ داخلهم جذوة الحرية وأحلام الانعتاق من الاستبداد. وقدّمت تجربة المنفى السوري صورة مشرقة عن القدرة على التكيف والصبر والبناء، وما هو مطلوب اليوم هو أن ترجع رؤوس الأموال والطاقات إلى البلد من أجل المساهمة في إعادة إعماره.

كان المجتمع المدني السوري مصادراً من النظام في مرحلة ما قبل الثورة، وبعد قيامها تدرّب على بناء المؤسّسات من أجل إدارة حياة السكان في مناطق التهجير، وحقق نجاحاتٍ مشهوداً لها. وهنا يحضر على الدوام مثال منظمة "الخوذ البيضاء" للدفاع المدني، التي خففت من معاناة السوريين، وحازت على تقدير الأمم المتحدة وعدة أطراف دولية وثقتها، ما جعلها هدفاً لروسيا التي حاولت إفشالها من خلال توجيه تهمة الإرهاب لها. وبالفعل، كانت هذه المنظمة أول الواصلين إلى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام أخيراً، وكان نزولها إلى حلب من أجل تقديم الخدمات الضرورية مبادرة تستحق التقدير، وتبعث على الأمل في نهضة المجتمع السوري.

شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر