العودة إلى أتاتورك

العودة إلى أتاتورك

19 ديسمبر 2021

أردوغان يخاطب أعضاء حزبه خلفه صورة لأتآتورك في أنقرة (24/5/2013/فرانس برس)

+ الخط -

عاد الرئيس أردوغان إلى تركيّته، وانفضّ سامر التصريحات التي ألهبت مشاعر العرب والمسلمين سنوات منذ اعتلائه سدّة الحكم. ولا لوم عليه، بل على أمة الكلام التي تطارد أحلامها الغابرة من حرفٍ إلى حرف، ومن خطابٍ إلى آخر، ومن زعيم إلى زعيم.

العتب كله على من يؤمنون بخروج الإمبراطورية العثمانية من رحم علمانية كمال أتاتورك، المهيمنة على مفاصل الدولة التركية التي وطّد أركانها منذ نحو قرن، وأغلق مجلس المبعوثان، وأعاد ممثلي الولايات العربية إلى بلادهم، قاطعاً ما تبقى من علاقة صورية بين الولايات العربية وأستانة، وتوجه نحو الغرب، لغةً وتفاعلاً وتحالفاً.

عرف أردوغان أنّ مبادئ أتاتورك لم تزل هي الحاكمة، فآثر الرجوع إليها؛ على الرغم من أنّه لم ينفصل عنها، ولم يزعم ذلك، بل ظلّ وفيّاً لها، وإن افتتح مساجد هنا وهناك، وسمح بالحجاب، وأشهر الأذان، غير أنّ المهووسين به ظنّوا أنّ هذه الخطوات مقدّمة لأسلمة الدولة، على الرغم من أنّها من مظاهر العلمانية التي تسمح بحرية التديّن والعبادة لجميع الأديان. هذا ما كان ينبغي أن يكون عليه الأمر أصلاً منذ البداية، زمن أتاتورك، لكنّ عسكر تركيا بالغوا في حروبهم مع ماضيهم، وجرّموا الأذان والحجاب، ومظاهر الإسلام، حتى جاء أردوغان فأعاد لها اعتبارها.

حاول أردوغان، أيضاً، أن يعيد ترميم العلاقة مع العالم الإسلامي، احتراماً للتاريخ الذي جمع بين المركز والأطراف قروناً. لكن لم يكن مطروحاً، أبداً، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، غير أنّ الظنون أخذت المنادين بإحياء التاريخ والعودة إلى الماضي مذهباً جعلهم يعتقدون أنّ هذا التقارب جزءٌ من استراتيجية أردوغانية لاستعادة الإمبراطورية الإسلامية، فخاب رجاؤهم عندما وجدوه يعيد العلاقة مع مصر التي حارب جنرالاتها صناديق الاقتراع التي قادت الإخوان المسلمين إلى السلطة. كان الظنّ أنّ أردوغان، بتقاربه مع محمد مرسي واحتضان حركة الإخوان المسلمين، إنما يمهّد الطريق لتوحيد العالم الإسلامي من جديد، لكن ما حدث نسف كلّ هذه الأمانيّ، سيما بعد التقارب أيضاً مع الإمارات المعروفة بعدائها "الإخوان".

ليس مستبعداً أن يحمل أردوغان عقلية الإخوان، لكنّ تحليل هذه العقلية يكشف أيضاً عن حجم البراغماتية التي يحملها هذا الفكر في جوانبه السياسية، فإخوان مصر لم يقطعوا علاقات مصر مع الكيان الصهيوني لما تسلّموا السلطة في عام رئاسة مرسي، بل كان التصريح أنّ مصر ستحافظ على عهودها واتفاقياتها الدولية الموقعة. وإسلاميو المغرب لم يعترضوا على توجّه العرش إلى التطبيع مع إسرائيل.

من هذا المنطلق، أيضاً، يمكن تفسير تصريحات أردوغان أخيراً عن اعتزامه تعزيز العلاقات مع إسرائيل، وشكّلت صدمة للعرب الذين كانوا يسمعون، حتى وقت قريب، تصريحات تهاجم دولة الاحتلال وتدينها، سيما في أوقات العدوان على غزة وانتهاكات المستوطنين في القدس.

يخطئ من يعتقد أنّ هذه التصريحات الجديدة وليدة الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها الليرة التركية، والحرب الاقتصادية التي تتعرّض لها البلاد، والمقصود بها، طبعاً، الحزب الحاكم نفسه بقيادة أردوغان الذي يرى الغرب ضرورة تقليم أجنحته، وإعادته ليعاود هو ودولته مطاردة الحلم المستحيل بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. مثل هذا الطرح مسوّغ في حالة واحدة؛ أن يكون أردوغان طاغيةً على غرار طغاة العرب الذين يقايضون دولهم بأكملها لقاء الكراسي والحفاظ على السلطة. أما في دولة ديمقراطية كتركيا، فإنّ أردوغان يعرف أنّ المنصب زائل، وفترة الرئاسة محدودة حتى لو استمرت دورتين، فلماذا عليه أن يقدّم كلّ هذه التنازلات إذاً؟

لا لغز وراء انقلاب تصريحات أردوغان على سابقتها إلّا في أذهاننا، نحن الباحثين عن مخلّص ومنقذ، فهو، في النهاية، رجل سياسة حتى لو رتّل القرآن، وأمّ المصلّين، وسياسته لم تغادر مبادئ أتاتورك والدولة العلمانية، ولن يُسمح له بمغادرتها وإن حاول ذلك، وكلّ ما يفعله هو إعادة التكيّف مع تلك المبادئ.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.