العم جو والخالة نانسي

العم جو والخالة نانسي

26 يناير 2021

دميتان تمثلان بايدن وبيلوسي (1/10/2020/Getty)

+ الخط -

تنطوي مفردة العم، في حد ذاتها، على مفهوم يفيض بالاحترام الجزيل حيال كبار السن عموماً، وهي أداة تخاطبٍ مجازيٍّ مستمدة أساساً من عاطفة المودة وواجبات التكريم العائلية المعمول بها تقليدياً تجاه أخي الأب، سيما العم الأكبر عمراً ومقاماً. وينطبق الأمر نفسه على معنى الخالة، أخت الأم وتوأمها قلباً وقالباً، القائمة مقام الأم البيولوجية ذاتها، والمساوية لها منزلةً في الأدبيات الاجتماعية السائدة بين الأفراد من أرومة واحدة، لذلك جرى توسيع استخدام هذه الكلمة، للمجاملة والتحبّب، في إطار علاقات أوسع مجالاً، للدلالة على معاني التقدير والتكريم كلها.
على هذه الخلفية، تود السطور التالية أن تمضي بحذر نحو إجراء مقاربة عامة لخطاب تنصيب الرئيس الأميركي السادس والأربعين، فيها القليل من الثناء على الخطيب، والكثير من الإطراء للخطاب المفعم بالنيات الطيبة، بقسط واعتدال وتحفظ، بعد أن علّمتنا سابقة الحفاوة الكبيرة، حتى لا نقول خطيئة الحماسة الشديدة، إزاء دخول أول رئيس أسود البشرة البيت الأبيض، قبل 12 عاماً، واجب الحذر إزاء الرؤساء الأميركيين قاطبة، ناهيك عن فضيلة الإمساك عن التوقعات المتفائلة بمقدم رئيس جديد، حتى وإن كان بديلاً لسلفه ترامب سيئ الصيت والسمعة.
وأحسب أن جو بايدن يستحق لقب "العم جو" بجدارة، لما بدا على أحد أكبر الرؤساء الأميركيين عمراً، من هدوء وسكينة، وما تميّزت به نبرة الرجل، المحمول على جناح 85 مليون ناخب إلى سدة الرئاسة، من أناة في تلاوة العظات الثمينة، ومن تواضع جم وحسن بصيرة، لا تصدر إلا عن "عم" عجمت نصاله السنين، أنضجته الخبرات المتراكمة، وصقلت معدنه تجارب الفشل والنجاح العديدة، الأمر الذي أحدث لدى مستمعيه في تلة الكابيتول، وفي العالم الأوسع، أفضل الانطباعات عن رئيسٍ أتى في الزمان المناسب من حيّز الوسط.
في خطاب التنصيب الرصين للعم جو، الذي أعدّه غداة إعلانه فائزاً في الانتخابات الرئاسية، وأجرى عليه تعديلات كثيرة لازمة، وتخلّله شعر وموسيقى، قدم وارث تركة الرجل البرتقالي خطاباً تصالحياً خالياً من النزعة الانتقامية، عرض بياناً يملأه حس بالتسامح والاعتدال والتوازن والحساسية، وتلا نصاً موجزاً (23 دقيقة) فائضاً بالثقة، وبالدعوة الملحة إلى الاتحاد، وبالتصميم على إشفاء اميركا من الوباء والبطالة والانكماش الاقتصادي والجنون، ناهيك عن الانقسام والتعصّب والكراهية، وكل ما حفل به عهد سابق تميّز بالارتجال والأكاذيب والصفاقة.
على أن أكثر مسألتين تستحقان التوقف، في حفل التنصيب بعد أداء القسم، وأبلغ ما ينبغي أخذه على محمل الجد والاهتمام، من مواقف العم جو المثالية، كما تبدو، هما تشديد من باتت لديه مفاتيح السلطة، وصولجان الأغلبية التشريعية، وهذه الأولى، على ضرورة كبح جماح فكرة تفوّق العرق الأبيض، معطوفة على وعده بإلحاق الهزيمة التامة بهذه الظاهرة المنكرة، وفوق ذلك مناهضة ميول العنف الفاشي المنظم والمسلح (أسماه الإرهاب الداخلي) الذي عمّ خلال سنوات ترامب الهائجة، وفي هذا الوعد وحده ما يكفي لرفع القبعة للعم جو.
المسألة الثانية تمثلت في تأكيد الرئيس الذي تخلص من البطء والتردّد، واسترد قدراً معقولاً من الكاريزمية، على أن الفوز لم يكن لمرشح، وإنما لقضية، هي الديمقراطية، وإنه يجب تعزيز عوامل الوحدة، محاربة الكراهية والإقصاء، وحماية الحق في الاختلاف والتعبير عنه سلمياً، وهي قيم عليا وقاسم مشترك أعظم بين الأمم كافة، تشكّل في مضمونها سداً منيعاً أمام الاستبداد، وذخراً ثميناً للحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وجواباً شافياً على سؤال "ما العمل" المطروح في كل زمان ومكان، سيما لدى شعوب العالم الثالث.
ولا يكتمل مبتدأ هذه المطالعة من غير خبرها المتمم لمعنى الجملة في العنوان أعلاه، ونعني بها الخالة نانسي، التي تدخل الثمانين وهي بكامل مشمشها وعنفوانها، امرأة مقاتلة بالمعنى المتحضّر للكلمة، سيدة من معدن الذهب، جديرة بلقب سيدة أميركا الحديدية، أو ربما أيقونة مجلسي الكونغرس، المرأة التي لم تلن لها قناة ولم يُشقّ لها غبار، وهي تواصل، بلا كلل منذ أربع سنوات، ولا تزال، مطاردة المعربد في البيت الأبيض، الأمر الذي يمكن القول معه إن الخالة نانسي بيلوسي كانت فرس الرهان وقوة الدفع الأولى التي طردت ترامب من واشنطن.
وهكذا، فقد مثّل العم جو والخالة نانسي، المطرقة والسندان ضد ترامب، أو قل شقّي المعادلة الناجعة التي عملت بكفاءة، ونجحت باقتدار، في إعادة الأمر إلى نصابه، ليس في البلد الأكثر تأثيرا في محيط محيطه فقط، وإنما في العالم بأسره.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي