العرب وترامب وزيلينسكي

03 مارس 2025

زيلينسكي وترامب يتجادلان في البيت الأبيض (28/2/2025 رويترز)

+ الخط -

أثارت المشادّة الكلامية التي دارت بين الرئيسَين الأميركي دونالد ترامب، والأوكراني فلوديمير زيلينسكي، أصداءً واسعةً، وردّات فعل متباينة، خصوصاً في الدول الأوروبية، فهي المعنية أكثر من غيرها بتطوّرات الحرب في أوكرانيا، وبالموقف الأميركي تجاه مساندة كييف. وفي مقابل هذا التفاعل الأوروبي، ساد صمتٌ مُطبق العواصمَ العربية؛ فلم تُظهِر دولةٌ عربيةٌ أيَّ موقف أو تعليق على ما جرى بين ترامب وزيلينسكي. صحيح طبعاً أن أطراف اللقاء ليسوا عرباً، والقضية تخصّ أوروبا وكييف وواشنطن، لكنّ الثابت أيضاً أن دلالات المشادّة والتلاسن تتجاوز قضية أوكرانيا، وتعكس بجلاءٍ رؤية ترامب للعالم، ومنطقه في التعاطي مع أيّ قضية خارجية، أيّاً كان الطرف المعني بها.
قبل أسابيع فقط، دار جدل واسع حول لقاءات بين قادة وزعماء عرب مع ترامب، كان محوره كيفية التعاطي مع رغبة ترامب في تهجير فلسطينيي غزّة إلى مصر والأردن، وربّما إلى أماكن أخرى. وسادت التعامل العربي مع ذلك الطرح حالةٌ من الارتباك والصدمة، ليس من مضمون فكرة التهجير فقط، فالواقع الذي تتهرّب منه بعض الدول العربية أنه لا إجماع عربياً على رفض مبدأ التهجير والتخلّص من صداع غزّة، وإنما كانت الصدمة من تلك الصراحة والمباشرة في طرح ترامب فكرته، فحتى الدول التي لها موقف معاكس مبدئياً أو جزئياً، لم تكن تفضّل تلك العلانية المُحرِجة، فالمعتاد في المسائل المصيرية والصفقات المهمة أن يُتباحَث في شأنها في الغرف المغلقة، والتوافق على ما يجوز قوله وما يجب عدم إعلانه منها.
لكنّ ترامب يصرّ على نسف هذه القواعد التقليدية في العمل السياسي، ويدير المباحثات السياسية رفيعة المستوى كما لو كانت مساجلاتٍ شخصيةً أو حواراتٍ عائلية. ففي خضمّ الملاسنة بين ترامب وزيلينسكي، حاول وزير الخارجية الأميركية، ماركو روبيو، إنهاء الحوار الملتهب مع زيلينسكي، لافتاً إلى أن التراشق الحاصل يجري أمام وسائل الإعلام. بادر دونالد ترامب إلى تأكيد حرصه على إعلام الأميركيين وإطلاعهم على ما يجري، وبقراءة لغة الجسد، وبتحليل مضمون ما قاله ترامب، يبدو جلياً أنه لم يكن يريد إحراج زيلينسكي فقط، بل تعمّد أيضاً إظهاره أمام الرأي العام الأميركي متمرّداً على راعيته واشنطن، وناكراً لجميلها.
ولعلّ لامبالاة ترامب بالآخرين، أيّاً كانوا، هي سبب تجنّب بعض القادة العرب زيارة واشنطن، تفادياً لمجادلة علنية مع من لا يتورّع عن قول أيّ شيء، وإحراج أيّ شخص. وما يهمنا عرباً أن ترامب ليس لديه ما يخفيه، كما أنه يملك من القوة والتفويض الشعبي والجرأة ما يغنيه عن المواربة والمجاملة، حتى إن كانت لديه مبالغة في قدرة واشنطن على الاستغناء عن أيّ طرف.
تكشف جرأة ترامب، بل وقاحته أن ثمّة مشكلة حقيقية لدينا، نحن العرب، في تبنّي مواقف حقيقية واضحة، وربما جوهر هذه المشكلة في غياب الظهير الشعبي للسلطة في معظم الدول العربية، والفجوة الواسعة بين النخب والحكّام، وبين الشعوب والرأي العام. لكنّ المؤسف أنه حتى في القضايا التي تتضاءل فيها المسافة بين القيادات والشعوب، وتتّسق المواقف بشأنها، لا تستند الحكومات والدوائر الرسمية إلى الدعم الشعبي ولا تستقوي به في مواجهة غطرسة شخصٍ مثل دونالد ترامب. فيكون الحلّ هو تجنّب لقائه، بدلاً من مواجهته والردّ عليه بقوة وحزم، كما فعل زيلينسكي. ورغم أنه لم يواجه ترامب بأن واشنطن هي التي أشعلت الأزمة من البداية، وحرّضت أوكرانيا على استفزاز روسيا، لكن أداء زيلينسكي وكلامه ولغة جسده نموذجٌ يجب أن يُدرّس ويُحتذَى من طرف معظم الساسة العرب.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.