العراق... وقائع موت معلن

العراق... وقائع موت معلن

30 يونيو 2021
+ الخط -

من منهما كان قرأ رواية غابرييل غارثيا ماركيز "قصة موت معلن" القاتل أم القتيل؟ أغلب الظنّ أنّه القاتل، وإن يعرف الكلّ أنّ رجال المليشيات ليسوا من قرّاء الروايات، وليسوا في وارد البحث عن ماركيز أو غيره من الروائيين، ولو عرفوه لكفّروه. ولكنّ الظنّ هنا يرجع إلى أنّ قاتل الناشط العراقي، إيهاب الوزني، كان هدّد ضحيته: "سوف أصفّيك حتى لو بقي من عمري يوم واحد"، لكأنه أراد أن يجاهر بنيّته قتل إيهاب، ليس للبحث عن مبرّر يتيح له التراجع عن فعلته الشريرة، كما فعل التوأمان بابلو وبيدرو في رواية ماركيز، وإنّما لتوجيه رسالة إلى ناشطي الحراك الشعبي، تنذرهم بمصيرهم إذا ما أصرّوا على استعادة وطنهم.

أدرك إيهاب أنّ كلّ مدن العراق وقصباته تحوّلت إلى غابة، وقد أصبح اغتيال ناشطي الحراك الشعبي طقساً يومياً. ولذلك طلب منحه إجازة حمل سلاح للدفاع عن نفسه عند الضرورة، لكنّه لم يلقَ استجابة، وقيل له إنّ رجال الأمن سيوفرون الحماية له. وما حدث أنّ إيهاب اغتيل أمام أعين رجال الأمن أنفسهم. هذا ما نقلته سميرة الوزني (أم إيهاب) إلى مسؤولي الدولة... هل في العراق دولة حقاً؟

المليشيات المؤتمرة بأوامر "الولي الفقيه" هي التي تحكم في العراق

توعّد رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، القتلة "الذين أوغلوا في الجريمة، وقد توهّموا أنّهم سيفلتون من قبضة العدالة". تقمّص الكاظمي هنا شخصية لويس الرابع عشر: "أنا الدولة والدولة أنا" ونسي أنّ الخصوم كثيرون. وفي أيام معدودة، وقفوا على بوابات المنطقة الخضراء، مهدّدين باقتحامها وإسقاط الكاظمي إذا لم يطلق سراح من قيل إنّهم ضالعون في عملية قتل إيهاب الوزني، وسواه من ناشطي الحراك الشعبي. ولم يجد الكاظمي بدّاً من أن يتراجع عن وعده، وأن يستجيب لمطلب خصومه، وقيل إنّ طهران مارست ضغوطاً لإطلاق سراح وكلائها المتورّطين في مسلسل القتل. وفي حينه، كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، يدور بين أروقة المنطقة الخضراء في بغداد، ولم يغادرها إلّا بعدما تحقق له ما يريده!

انتظرت أم إيهاب أربعين يوماً كي يفي الكاظمي بوعده، ولمّا اكتشفت أنّه لا حول له ولا قوة، وأنّ المليشيات المؤتمرة بأوامر "الولي الفقيه" هي التي تحكم، حملت خيمتها واتجهت صوب دار القضاء في كربلاء، لتحط رحالها هناك، في وقفة احتجاج صارخة، علّ القضاء يُنصفها، لكنّه خذلها أيضاً، إذ سرعان ما انقضّ عليها حماة الأمن وطردوها، وصادروا خيمتها، واعتدى عليها عسكريون بالضرب، وظلت تقاوم، ورفضت أن تتراجع أو تستكين، رمت "شيلتها" على الأرض، مستغيثة برجال العراق كي يثأروا لها من قتلة ابنها. غالبت دموعها وهي تصرخ: "سيقتلون أبناءنا واحداً بعد الآخر"... ولا من مغيث.

زادت السنة التي قضاها الكاظمي في السلطة من حالات "الموت المعلن". راكمت جثث الضحايا، وفاقمت مشاهد القتل ومسلسل الخطف والاغتيال، وهو يعد ويتوعّد، وليس أكثر من ذلك، وأمهات سبعمائة شهيد وزوجاتهم وأخواتهم، وأكثر من عشرين ألف جريح ومعوّق حصيلة سنتين، منذ تصاعد الحراك الشعبي، وهن يعشن على هامش الحياة، وينتظرن من يقتصّ لهن، وعشرات اللجان شكلت للتحقيق، تمهيداً لمقاضاة القتلة، لكنّ الأمر تحوّل إلى هواء في شبك.

باتت حالات "الموت المعلن" تشكل ظاهرةً مرضيةً، ليس بالإمكان مواجهتها من دون "مشروع وطني"، يعيد العراق إلى أهله

يلقي أصدقاء الكاظمي اللوم عليه، لقبوله الإقامة وسط الحرائق من دون غطاء، لا حزب يسنده، ولا مليشيا يتكئ عليها. شكّل ذلك مأزقاً له أخذ منه الكثير، وأرغمه على الرقص مع الثعابين، واقفاً على حبلٍ مشدود بين مبنيين شاهقين، كما قال، باحثاً عن مزمارٍ للسيطرة على حركة الثعابين التي تنتظر فرصتها للوثوب ضده. وعندما أدركته خيبة الأمل، انصرف إلى التنظير لما أطلق عليه "استعادة الثقة" بين بلاده وبين جيرانه والعالم الخارجي، عسى ذلك يعوّضه عن فشله في إدارة الملفات الداخلية. هذا لا يعني أنّه تخلى عن طموحه في أن يؤدّي دوراً أكبر بعد انتخابات تشرين، فالواضح أنّه يسعى إلى أن يكون "بيضة القبان" في موازين الأحزاب والكتل الحاكمة التي قد لا تتوافق على غيره للفوز بولاية جديدة، وإن كان قد أنكر مرّاتٍ تطلعه إلى لحظةٍ كهذه.

وبالمختصر المفيد، باتت حالات "الموت المعلن" تشكل ظاهرةً مرضيةً، ليس بالإمكان مواجهتها من دون "مشروع وطني"، يعيد العراق إلى أهله، ويؤسّس لحكم عادل على أساس المواطنة الكاملة وسيادة القانون، ويقضي على المليشيات، ويضع السلاح كلّه في يد الدولة، وليس ثمّة طريق آخر.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"