العراق: الانتخابات ومنظومة السلطة المستقرّة
عراقي يدلي بصوته في الانتخابات المحلية في بغداد (16/12/2023 الأناضول)
تناقلت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً من حفلٍ غنائيّ أُقيم في بغداد لمغنٍّ عربيّ قبل أيام، أظهرت عائلاتٍ مبتهجة ونساءً يلتقطن الصور مع المطرب على منصّة الحفل، باعتبار ذلك دليلاً على التعافي وعلى أنّ البلد "منفتح" ولا يعاني مشكلاتٍ تجاه النساء أو الحريّات العامّة.
غير أنّ حفلاتٍ مشابهة كان يُفترض أن تُقام في عهد حكومة مصطفى الكاظمي السابقة، لكنّ المتشدّدين منعوا إقامتها. وفي الحالين، سواء المنع أو الإباحة، لا يظهر للدولة رأيٌ حقيقي؛ فالأمر متروكٌ لمزاج الكيانات السياسيّة المتحكّمة بالسلطة، وهي كيانات يصعب وصفها بـ"الأحزاب" لافتقارها إلى برامج أو أيديولوجيات واضحة. إنّها أقربُ إلى تكتّلاتٍ لأفراد تجمعهم مصالح مشتركة، يردّدون مفردات السرديّة الطائفية العامّة، ما يجعل من الممكن جمع عشرات الكيانات في كيان واحد لتشابهها شبه التام في الخطاب والسلوك.
وعلى أعتاب الانتخابات، تنقسم اليوم كتلة "الإطار التنسيقي" الشيعي الحاكم إلى كتلتين تقريباً: إحداهما تميل إلى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وتريد التجديد له لولاية ثانية، والأخرى تعارض ذلك وتسعى لقطع الطريق على عودته إلى منصبه. غير أنّ سبب الأزمة، مرّة أخرى، لا يتعلّق تحديداً بتفكير أو رغبات الأفراد في أيّ من الفريقين، بل بالمبادئ العامّة غير المدوّنة التي قام عليها النظام السياسي بعد عام 2003، أو التي اتفق عليها الفاعلون السياسيّون من خلفيّات إثنية وطائفية متنوّعة. ويتصل الأمر أيضاً بمعضلة أعمق وأبعد زمناً تُسمّى "معضلة الدولة الريعيّة".
في الشقّ الأول، ترى جميع الكيانات السياسيّة أنّ إنجازات الدولة تجاه مواطنيها بوابةٌ للترويج السياسي. فإذا لم يحقّق شارعٌ مبلّط أو جسرٌ مُقام أو خدمات بلدية مصلحةً مباشرة لتيارٍ سياسيّ ما، فإنها تقف في طريق إنجازه أو تعمل على تعطيله.
تختار الأحزاب رئيساً للوزراء، لكنها – كما يبدو – تنتظر منه أمرين: أوّلهما توزيع الريع عبر الصفقات والعمولات على الأحزاب الرئيسة، وثانيهما أن يبقى هامشياً وألّا ينجز ما يُحسب له ترويجاً سياسيّاً على حساب الكيانات التي أوصلته إلى منصبه.
تحقيق معادلةٍ ناجحة بين هذين المطلبين لم يتحقّق حتى الآن إلا مرّةً واحدة ربما، في السنة اليتيمة لعادل عبد المهدي. أمّا في المجمل، فقد تمكّن نوري المالكي، مثلاً، من بناء صورته السياسية من الصفر تقريباً إلى أن أصبح عنصراً فاعلاً في العملية السياسية، بالاستفادة من منافع منصب رئاسة الوزراء. وفعل حيدر العبادي الأمر نفسه وإنْ بدرجةٍ أقلّ، وكان مصطفى الكاظمي على وشك تكرار ذلك لولا شراسة المواجهة التي اضطرّته إلى مغادرة العراق. واليوم يفعل السوداني الشيء نفسه؛ إذ خرج من الصفوف الخلفية ليصبح في صدارة المشهد، مع احتمالاتٍ كبيرة بأن يعجز خصومه عن إقصائه عن ولاية ثانية.
في الشقّ الثاني، معضلة الدولة الريعية: ما دام العراق معتمداً أساساً على واردات النفط، فسيدفع دائماً باتجاه تركيز السلطات في يد الحاكم، أيّاً كان. وقد فشلت الديمقراطية في إنتاج آليات عملٍ سياسيّ منتظمة وطبيعية بسبب معضلة الريع.
لا أحد يصدّق اليوم أنّ هناك جهداً حقيقيّاً لبناء دولة في العراق. ولكن يتوقّع الكثيرون على الأقل بناء "منظومة سلطة" فعّالة تقدم الخدمات للمواطنين وتحفظ كرامتهم، ولكن حتى هذا غير متحقّق.
البعيد عن التصوّر والإمكان أن تُفضي الانتخابات المقبلة إلى إصلاحٍ للنظام الديمقراطي، فيما الأقرب إلى التوقّع أن يكسر زعيمٌ أوحد معضلة "رئيس الوزراء الدمية" الواقع تحت هيمنة أحزاب شتّى، فينفرد بالساحة ويغدو هو نفسه منظومة السلطة والدولة والمتحكّم في جميع مفاصلها، وسوف يتقبّل الكثير من المواطنين إجهاز هذا الزعيم على الديمقراطية أو إفراغها من محتواها، مقابل منظومة سلطة فعّالة.