"العدالة والتنمية"... هل عودة بنكيران ورطة؟

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
عقد حزب العدالة والتنمية، المغربي الإسلامي المرجعية، نهاية الأسبوع الماضي (26 و27 إبريل/ نسيان) المؤتمر الوطني التاسع للحزب في سياق استثنائي جدّاً، تتنازعه الأزمة الداخلية التي يعيشها الحزب، منذ السقوط المدوّي في انتخابات 2021، ومساعي البحث عن التموقع واستعادة بريقه في مشهد سياسي باهتٍ بلا إثارة، فيما يشبه متابعة مباراة رياضية حُسمت سلفاً أيّاً تكن النتيجة، فضلاً عن مساعي الحزب كسب ودّ "المخزن" (الدولة العميقة)، الذي عبّر في رسائل مباشرة وأخرى غير مباشرة، ردّدها أعضاء سابقون في الحزب، عن امتعاض أجنحة في دار المخزن من الحزب. لا أحد سيجادل في أن مؤتمر حزب المصباح (شعار الحزب) كان ناجحاً جدّاً، من حيث الإعداد والتنظيم، وحتى الإخراج (بما في ذلك أدقّ التفاصيل)، عند مقارنته بما ألفه المغاربة من مشاهد سوريالية في مؤتمرات أحزاب سياسية عريقة في السنوات الماضية.
أضحى الحفاظ على "العدالة والتنمية" حزباً هدفاً في حدّ ذاته، من دون مبالاة ولا اهتمام بأسئلة كبرى عن مدى فعّالية خيار الإصلاح من الداخل
فالضربات المتلاحقة التي هزَّت البيت الداخلي، منذ إعفاء عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة وتعويضه بسعد الدين العثماني عام 2017، وحوّلته شيعاً وطوائفَ لم تظهر في مجريات المؤتمر الوطني، الذي دخله المشاركون على "قلب رجل واحد"، بعيداً من الكولسة أو التحكّم في إرادة المؤتمرين. لكنّ المتابع الحذق لمسيرة "العدالة والتنمية" يدرك أن مِثل هذه التفاصيل التنظيمية لم تعد إنجازاً يفخر به مناضلو الحزب، لِما راكموه من خبرة ودراية والتزام قلَّ نظيرها في المشهد الحزبي المغربي، حتى وإن كانت مهمّة اعتباراً للسياق؛ فهذا أول مؤتمر لـ"المصباح" بعد انسحاب واستقالة قيادات تاريخية منه (مصطفى الرميد وعزيز رباح وعبد القادر عمارة...)، فأهميتها تأتي في الدرجة الثانية مقارنة بسؤال المشروع السياسي، أي الأطروحة السياسية، بصيغة أكثر وضوحاً من الجواب عن سؤال الرؤية والمستقبل. انتظر كثيرون (داخل الحزب وخارجه) أن يكون المؤتمر محطّة لتصفية رواسب الماضي، ومساءلة بنكيران بشأن تعهّداته لأعضاء الحزب ومناضليه، وما حقّق في خطّة تجديد دور الحزب، لا سيّما ما يتعلّق بالبناء التنظيمي والمصالحة الداخلية والرؤية الجديدة... وغيرها من وعود قدّمها لحظة إعادة انتخابه أميناً عاماً في مؤتمر استثنائي في ديسمبر/ كانون الأول عام 2021، بنسبة 81% من الأصوات، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدُث بعدما حصر المؤتمر رهانات، فأضحى سؤال القيادة العنوان الأبرز للمحطّة التاسعة في تاريخ حزب المصباح.
يبدو أن الإجماع قائم في أوساط المؤتمرين على أن الأسئلة الأخرى تقبل التأجيل، ما عدا سؤال القيادة، فالأغلبية ترى الزعامة الضمانة الوحيدة للبقاء. هكذا أضحى الحفاظ على الحزب هدفاً في حدّ ذاته، من دون مبالاة ولا اهتمام بأسئلة كبرى عن مدى فعّالية خيار الإصلاح من الداخل، بعد تجربة عشر سنوات في الحكومة، وأي السبل أجدى لفكّ عقد الانتقال الديمقراطي المعطوب في البلاد... وهلّم جرّاً من الأسئلة التي تساعد في رسم الخطّ الاستراتيجي للحزب، وتوضّح معالم المشروع النضالي للمرحلة المقبلة، من أجل وضعه في السكّة الصحيحة لاستعادة دوره في المشهد السياسي، حتى لا يتحوّل لمجرّد دكّان حزبي ينتعش عند كلّ موعد انتخابي.
أعاد الإسلاميون انتخاب عبد الإله بنكيران أميناً عاماً للحزب لولاية رابعة بالأغلبية (69%) منذ الجولة الأولى من التصويت، كما توقّع الرجل بكلّ ثقة قبل أشهر حين هاجم في ندوة حزبية داخلية فكرة تشبيب القيادة، متحدّياً القوم: "ابدأوا الحملة الانتخابية... وسنرى من سيفوز"، وكلّهم أمل في استعادة نوستالجيا تاريخية، حين كان الزعيم يستعرض مهاراته الفنّية في المشهد السياسي، التي كانت محطّ إعجاب الخصوم قبل الأصدقاء، زمن "الربيع العربي" وما بعده (2010 -2016). اختيار من شأنه أن يعمّق مشكلات حزب العدالة والتنمية مستقبلاً، لا سيّما إن تشبّث شيخ الإسلاميين (71 عاماً) بمنصب الأمانة العامّة تشبّثاً تختلط فيه الدوافع الشخصية بالحسابات السياسية، فالرجل مدفوعٌ بفكرة الانتقام السياسي لنفسه، وللحزب أيضاً، من إخراجه المذلّ من الحكومة، ما سيُرخي لا محالة بظلاله على الحزب. وما تراجع نسبة المؤيّدين له ما بين المؤتمرين (الاستثنائي 81% والعادي 69%)، سوى دليل على مخاوف فئة من الأعضاء من هذا السيناريو، الذي يبقى مستبعداً بالنظر إلى براغماتية الرجل، وركونه دوماً نحو التهدئة تجاه "المخزن"، حتى في اللحظات التي كان فيها مستهدفاً بشكل مباشر (البلوكاج مثلاً).
تضاف إلى دوّامة الأزمات التي يتخبّط فيها الحزب حالياً تراجع إجمالي الأعضاء في الحزب بنحو النصف، إذ فقد الحزب 20 ألف عضو خلال أربع سنوات فقط (2020 - 2024)، وقد انعكس هذا بجلاء على مالية الحزب، الذي اهتدى أمينه العام إلى تسجيل كلمة موجّهة إلى الأعضاء والمناضلين يطلب منهم المساهمة والتبرّع لتغطية المصاريف اللازمة لتنظيم المؤتمر، بعد رفض وزارة الداخلية صرف الدعم العمومي للحزب.
هل يعقل أن ننتظر من حزب يعيش بالدعم الممنوح من الدولة أن يكشّر عن أنيابه ضدّ الدولة؟
يجرّنا ذلك إلى سؤال أكبر عن الاستقلالية المالية، فهل يعقل أن ننتظر من حزب يعيش بالدعم الممنوح من الدولة أن يكشّر عن أنيابه ضدّ الدولة؟ وفرضاً أن القواعد كذلك، لماذا لم يستثمر الحزب طوال العقد الذي قضاه في الحكومة (2011 -2021) في بناء منظومة مالية مستقلّة قادرة على الصمود في وجه الدولة؟ كان التمويل رسالة مشفّرة من الدولة العميقة، ممثلة في وزارة الداخلية، إلى حزب المصباح، رافقتها رسالة مماثلة من وزارة الخارجية، بإحجامها عن منح ممثلي حركة حماس تأشيرة دخول التراب المغربي للمشاركة في فعّاليات المؤتمر، لا بل إن هيئة حقوقية (بالاسم فقط) تجرّأت فأصدرت بلاغاً (بياناً) تطالب فيه بعدم الترخيص لتنظيم المؤتمر، بعد توجيه دعوة رسمية إلى الحركة. وتبقى أقوى رسالة مباشرة من "المخزن" إلى إخوان بنكيران تعيين أخيهم في الحزب عبد القادر عمارة (الوزير والقيادي السابق في العدالة والتنمية) في رأس مؤسّسة دستورية هي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
بعيداً من المؤتمر، ولعبة الإشارات بين "المخزن" و"العدالة والتنمية" نطرح السؤال عن قدرة بنكيران بمعية القيادة الجديدة في الأمانة العامة، وفي المجلس الوطني، اللذيْن (وللغرابة) يحافظان على الوجوه السابقة نفسها (وزراء سابقون ومسؤولون مركزيون)، منها من لم يحضر المؤتمر أصلاً، فهل الأداة التنظيمية للحزب عاجزة عن صناعة قيادات جديدة بمقدورها حمل المشعل، وعلى اجتراح أفق جديد في تجربة الإسلاميين المغاربة الذين شكّلوا استثناء في السياق العربي؟
سيكون الجواب بالنفي، فبنكيران يدرك قبل غيره أن الرهان على الوصفة القديمة بلا فائدة، فالبوْن شاسع بين سياق وحزب ومغرب 2011 عن الأحوال في 2025. ثمّ، وعلى فرض حدوث معجزة أعادت للحزب لياقته من جديد كأنّه طائر رخّ كما في الأسطورة، فأي موقع للحزب بقيادة بنكيران في الحكومة المقبلة، في ظلّ امتعاض القصر الملكي الظاهر من شخصية الرجل؟
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.