العدالة الانتقالية والسلم الأهلي حاجتان وطنيّتان في سورية

25 يناير 2025
+ الخط -

مضى أقلّ من شهرين على سقوط نظام الأسد في سورية، نظامٌ قلَّ مثيله في الطغيان والإجرام، وما كشفته سجون صيدنايا وعدرا (وتدمر قبل هدمه) والمزّة لم يكن سوى غيض من فيض. كابوسٌ عاشه السوريون منذ وصول حافظ الأسد إلى سُدّة الحكم بانقلابه العسكري في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، الذي أصرَّ على تسميته "الحركة التصحيحية". دفع السوريون ثمناً باهظاً من أجل حرّيتهم، وتركهم المجتمع الدولي وحدهم أمام نظام وحشي قتلهم بمختلف أنواع الأسلحة، حتى المحرّمة دولياً، غير عابئ بعدد الأرواح التي يمكن أن تحصدها صواريخه الباليستية وراجماته وقنابله العنقودية وطائراته وبراميله، وغير مكترثٍ بحجم الدمار التي يمكن أن تخلقه في المناطق السكنية والبنى التحتية.

في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول عام 2024، هرب الطاغية بشّار الأسد بطريقة جبانة، تاركاً خلفه بلداً مدمّراً وشعباً محطّماً، استشهد منه ما يقارب نصف مليون شهيد، وحوالي 112 ألف مفقود في السجون، وستّة ملايين لاجئ في دول الجوار وأوروبا، وتقريباً سبعة ملايين نازح ضمن سورية، أكثر من 80% منهم يعيشون تحت خطّ الفقر، وستّة ملايين من أطفاله يعانون من سوء التغذية، ومهدَّدون بالجوع... كارثة إنسانية بكلّ معنى للكلمة. وحتى الآن، لا توجد مؤشّرات واضحة تُبيّن كيف ستتّخذ الأمور مجراها في سورية بعد سقوط الطاغية، فالأفق يبدو مفتوحاً على جميع الاحتمالات التي يصعب التنبّؤ بها، ويعتمد ذلك على السلطة القائمة في دمشق وخططها التي ما تزال غامضةً، وعلى المجتمعين الدولي والإقليمي، إضافة إلى إرادة الشعب السوري وقدرته في التنظيم والضغط في هذا الاتجاه أو ذاك. ولعلّ ما يحتاجه السوريون اليوم أكثر هو تحسين أوضاعهم المعيشية والمادية الخانقة، وشفاء جراحهم، والشعور بالأمن والأمان، ولا يمكن تحقيق هذا إلّا في ظلّ نوع من السلم الأهلي والاستقرار السياسي، والبدء بعملية حقيقية للعدالة الانتقالية شرطاً للسلم والمصالحة الوطنية.

يعطي إحلال ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب، التي سمح بها النظام البائد من أجل ارتكاب الانتهاكات والجرائم، إحساساً بالأمان للضحايا، وشعوراً بالإنصاف لمعاناتهم

إن إطلاق عملية العدالة الانتقالية في سورية من أصعب وأعقد التحدّيات التي يواجهها المجتمع السوري حالياً، فمؤسّسات الدولة جميعها منهارة، ولا يوجد جهاز قضائي ذو مصداقية حتى الآن. إضافةً إلى ذلك، فإن حالة الانقسام المجتمعي الحادّة السائدة اليوم في سورية نتيجة الموقف من النظام البائد ومليشياته وجرائمه، والتحريض الذي مارسه هذا النظام في مدار عشرات السنوات ضدّ مكونات المجتمع، تجعل المهمّة أكثر تعقيداً. وربّما لا يمكن البدء بهذه العملية من دون مساعدة المؤسّسات الدولية، كمحكمة العدل الدولية ولجان حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والمبادرة العالمية للعدالة والحقيقة والمصالحة. لكن في جميع الأحوال، من دون هذه العدالة، سيشعر ملايين الضحايا بالظلم والعسف وعدم الإنصاف، وسيعتقدون أن المسؤولين عن ارتكاب الجرائم بحقّهم وبحقّ أبنائهم وبناتهم قد أفلتوا من الحساب والعقاب. وفي ظلّ هذا الشعور (المشروع) قد يلجأ بعضهم إلى الانتقام والقصاص بأنفسهم ولأنفسهم. لا شيء يفوق الشعور بالظلم وضياع الحقّ في تحفيز العنف، فلا سلم أهليا من دون عدالة انتقالية، ولا عدالة انتقالية من دون سلم أهلي. هذه هي المعضلة التي ستواجه سلطة دمشق الحالية.

مفهوم العدالة الانتقالية يعني فتح صفحة جديدة تقوم على أسس الحقيقة والاعتراف والمحاسبة والعدالة، ثمّ المصالحة. وتُنفَّذ هذه العدالة في المجتمعات التي عانت من العنف والحروب الأهلية وانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم التهجير والإبادة الجماعية، وذلك بهدف الانتقال إلى مجتمع وطني مستقرّ وآمن وأكثر ديمقراطية، كما حدث في تشيلي (1990)، وجنوب أفريقيا (1994)، وبولندا (1997)، وسيراليون (1999). ومن الممكن أن تكون التجربة المثلى في العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، التي يمكن أن يستفيد منها السوريون، هي تجربة رواندا (1994)، التي شهدت مجزرةً جماعيةً مرعبةً أودت بحياة 800 ألف طفل ورجل وامرأة، في مائة يوم فقط، فقد قدّمت الجهود الذاتية والدولية سُبل العدالة والعدالة الانتقالية والمصالحة الأهلية في رواندا، ممّا مهّد الطريق للروانديين للخروج من متاهات الماضي وآلامه، ليتمكّنوا من إعادة بناء وطنهم والانطلاق نحو المستقبل. اليوم، تتصدّر رواندا دول أفريقيا في معدّلات النموّ، فسجلت نسبةَ نموٍّ بلغت 8% سنوياً في العقدَين الماضيَين، أي أعلى بأربع مرّات من معدّلات ما قبل الإبادة. كما برزت رواندا سوقاً صاعدةً في أفريقيا في مجال التقنية الحاسوبية المتقدّمة، وشهدت البلاد انخفاضاً ملحوظاً في معدّلات الفقر وفي وفيات الأطفال، وارتفاعاً كبيراً في متوسّط العمر المتوقّع للفرد. كما تعدّ اليوم في صدارة الدول من حيث تمثيل النساء في الهيئات التشريعية. في مقال في "الغارديان" بعنوان "رواندا أصبحت منارة للأمل"، يقول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، توني بلير، "الروانديون أنفسهم من ساهم في صياغة السياسة اللازمة لشفاء بلدهم، لتصبح رواندا بتجربتها في التسامح والعدالة منارةً للأمل".

العدل والاعتذار والتسامح هي أساس الغفران، والغفران ليس نسياناً لما حدث، بل هو رفض السماح لما حدث بأن يدمّر حياتنا

يعطي إحلال ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب، التي سمح بها النظام البائد من أجل ارتكاب الانتهاكات والجرائم، إحساساً بالأمان للضحايا، وشعوراً بالإنصاف لمعاناتهم، ويساعدهم في كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية من خلال الثأر والانتقام وتهديد السلم الأهلي. لذلك، على الحكومة السورية الراهنة تأسيس ما يُمكن تسميته بـ"الهيئة الوطنية التحضيرية للعدالة الانتقالية والمصالحة"، تضع على عاتقها مسؤولية وضع البرامج والتصوّرات والسياسات الضرورية الخاصّة بالعدالة الانتقالية في هذه المرحلة، وذلك بالتعاون مع هيئات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية. هذه الهيئة تكون مؤلّفةً من قضاة وحقوقيين ودبلوماسيين سابقين، وأكاديميين باحثين في العلوم الاجتماعية، وسياسيين عندهم خبرة دولية في هذا المجال، ومن بعض الشخصيات الوطنية الاعتبارية. وتعمل هذه الهيئة من خلال عدّة لجان، على سبيل المثال: "لجنة التحقيق وتقصّي الحقائق"، التي ستهتم بجمع البيانات والمعلومات الخاصة بالجرائم (عمليات قتل، نهب، تعذيب واغتصاب، واعتقال سياسي، وإخفاء قسري) والضحايا، والعمل على توثيقها بشكل صحيح ودقيق. و"لجنة الدعاوي القضائية والمحاسبة"، وتشمل الإجراءات القضائية والمحاكمات العادلة، ولتكتسب عملية العدالة الانتقالية ثقة الجميع يجب محاسبة كلّ من ارتكب انتهاكات وجرائم، بلا استثناءات، حتى أولئك المحسوبين على المعارضة المسلّحة. و"لجنة التعويضات وجبر الضرر"، التي تعمل لجبر الضرر المادي أو المعنوي، والتعويض المادي يكون من خلال منح أموال وحوافز مادّية وخدمات، أمّا التعويض المعنوي فيكون من خلال تقديم الاعتذار الرسمي وطلب الصفح.

ومن اللجان المهمّة التي يجب العمل على تأسيسها جزءاً من عملية العدالة الانتقالية هي "إحياء الذكرى"، وهي أمر مهمّ لردّ الاعتبار للضحايا ولأسرهم ولإحساسهم بالإنصاف، من خلال أحداث وقائع وأبنية تمثّل آلية للتذكير واستحضار الماضي، مثل الاحتفالات الرسمية بعيد الثورة وعيد انتصارها، وإقامة النُّصب التذكارية والمتاحف واللوحات الجدارية الكبيرة في كلّ مدينة وبلدة. ويمكن في المدن الكبرى مثل حلب ودمشق وحمص وحماة ودير الزور إنشاء جدران ضخمة في الساحات العامّة تُزين بالورود، ويُكتب عليها أسماء الضحايا والشهداء والوقائع المأساوية. فالتذكير بالماضي يتيح نوعاً من إظهار الحقيقة، وتكريماً لأولئك الذين ماتوا وضحّوا من أجل الآخرين، ويساهم في الاستماع إلى أصوات الضحايا، ويُعزز من عدم تكرار ما حدث في الماضي مستقبلاً، ويحفّز الحوار والنقاشات والتسامح والصفح، ويعزّز من التقاء مكونات المجتمع الواحد في تاريخ مشترك، وبناء هُويَّة وطنية جامعة، مع النظر إلى المستقبل بدلاً من التمسّك بالماضي. إن التحكّم بالذاكرة الوطنية الجماعية يقع في صميم سياسات العدالة الانتقالية، التي تعقب فترات ما بعد الحروب والصراعات والثورات. فالاتفاق على هذه الذاكرة وعدم وجود ذاكرتَين متناقضتَين داخل المجتمع السوري سيكون صمّام أمان لسورية وللسوريين كلّهم.

العدالة الانتقالية ليست ترفاً، بل مطلب، من دون تحقيقه لا يمكن التأسيس للمصالحة الوطنية والسلم الأهلي وبناء الهُويَّة الوطنية الجامعة لمكوّنات الشعب السوري من مختلف الإثنيات والأديان والطوائف. العدل والاعتذار والتسامح هي أساس الغفران، والغفران ليس نسياناً لما حدث، بل هو رفض السماح لما حدث بأن يدمّر حياتنا.

EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
عزام أمين

كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا

عزام أمين