العبث نهجاً سياسياً
يبدو أن الغرور والإحساس بالعظمة والثقة الزائدة بالنفس يفسّران حالة الهذيان التي جعلت رئيس أقوى دولة يتجاوز الثوابت التقليدية، ليس فقط للدبلوماسية الأميركية، بل أيضاً يطيح كل الأعراف والقوانين والمؤسّسات التي استقرت بعد الحرب العالمية الثانية. لهذا السبب، توالت التصريحات المعترضة على أقواله وشطحاته من مختلف الدول والأطراف المعنية بالمحافظة على الحد الأدنى من المنطق ومن المنظومة العالمية. فقدت السياسة ما تبقّى لها من قيمة اعتبارية، ما دفع فريق البيت الأبيض إلى التراجع بسرعة قصوى، ومحاولة التأكيد أن الرئيس لم يلتزم شيئاً عملياً في ما يتعلق بوجود عسكري في غزّة، وأنه كان خلال حديثه يفكر بصوت عال من خارج الصندوق. ولهذا السبب، سارعت صحيفة نيويورك تايمز إلى التأكيد أن كبار المسؤولين يتوقّعون "اختفاء فكرة ملكية قطاع غزّة بعد أن اتضح للرئيس الأميركي أنها غير قابلة للتطبيق". لكن ما فكر فيه وأعلنه كان أشبه بالفاجعة في دلالاته وتداعياته.
من كان يتصوّر أن يستقبل الرئيس الأميركي شخصاً متّهماً بإبادة ما لا يقل عن 60 ألف إنسان، أغلبهم من الأطفال والنساء، ومطلوباً من المحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب تهم تتعلق بالفساد. وبدل أن يضغط عليه دبلوماسياً للحد من عدوانيته، ويطفئ الحريق المشتعل في فلسطين، حصل العكس، وأصبحت المشكلة تكمن في سكان غزّة، وليست في وحشية عدوهم الذي حوّل المدينة الجميلة إلى ركام، ويكون الحل المقدّم تهجيرهم إلى الأبد من أرضهم التي سيجعل منها ترامب منتجعاً سياحياً يسيّل لعاب كبار المستثمرين في المجال العقاري، من دون أن تدفع الولايات المتحدة دولاراً واحداً. ولكي تتحقق هذه الفكرة الخيالية والسخيفة، يجب الضغط على دول الجوار وغيرها لتستقبل أكثر من مليوني فلسطيني وتوطّنهم. وبذلك يتحقق السلام الذي يمثله رئيس الحكومة الإسرائيلية، حسب اعتقاد الرئيس الأميركي، ويغلق ملف هذه القضية التي تجاوز عمرها مائة عام!
ما هذا الخيال المريض والعقل السياسي المختل الذي يريد أن يقود العالم إلى فوضى غير مسبوقة. هكذا يتحوّل المجرم إلى بطل، وبدل أن يُحاسب على ما ارتكبه من فظائع، يتحوّل الجدل داخل إسرائيل وخارجها إلى سباق محموم من أجل البحث عن صيغ تمكّن الفلسطينيين من مغادرة غزة برّاً وبحراً، وقد أعطيت التعليمات لإنجاز ذلك في أقرب الآجال وبكل التسهيلات، بعد أن تعمّدت السلطات الإسرائيلية منع دخول المعدات الثقيلة والتجهيزات الطبية الضرورية إلى غزّة. وفي هذا السياق، توالت الأفكار والسيناريوهات الخطيرة، بدءاً من تشديد الحصار، وصولاً إلى فكرة إقامة كونفدرالية أردنية وفلسطينية.
الغريب في هذا كله اعتقاد ترامب وجماعته أنه قادر على تطويع العالم بأسره، وإخضاع الجميع لإرادته، بمن فيهم الفلسطينيون. يأمر فيُطاع. انسحبت أميركا من مجلس حقوق الإنسان، ومنظمة الصحة العالمية، ومن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومن اتفاقية المناخ. إمبراطور لا يردّ له طلب. وقد بدا هذا المشهد مضحكاً ومزرياً، ولكنه في المقابل خطيرٌ ومخيف. لهذا، عندما انتهى المشهد الاستعراضي بعد التصريحات الصحافية المشتركة مع نتنياهو، تفاجأ الذين حوله بصعوبة تنفيذ ما جاء في أقواله، وشرعوا في البحث عن مخرج من هذه الورطة التي أوقعهم فيها هذا الملياردير الحالم والاستثنائي والمخيف.
لن يغادر أهل غزّة أرضهم، حتى لو اضطرّوا إلى البقاء في الخيام سنوات أخرى ينهشهم البرد والجوع. وحتى لو جرت مقايضتهم بمختلف الإغراءات، لن ترضى الأغلبية الساحقة التنازل. هذا ما قالوه وفعلوه طوال المرحلة الماضية، وستثبت الأيام المقبلة ذلك للإدارة الأميركية وغيرها. أما حركة حماس التي فاجأها هذا الموقف العبثي، فعليها تقدير الموقف جيداً، فنهاية صفقة التبادل تعني إسرائيلياً وأميركياً عودة الحرب والرجوع إلى خيار التهجير. وعليها التصرف بذكاء، حتى لا تفقد الأوراق الثمينة التي تحت تصرّفها. وتكفي الإشارة إلى أن 72% من الإسرائيليين يؤيدون خطّة ترامب للسيطرة على غزّة. الأطماع الصهيونية متجذرة و بلا حدود.