العالم بحسب ترامب
هل أصيبت الولايات المتّحدة في عقلها؟ سؤال خامر كثيرين وهم يرونها تتقدّم رجعيّاً، معوّضةً الرئيس 47 بالرئيس 45. طريقة ماكرة لتطبيق فكرةِ الرجعيّة، التي غلبَ الظنُّ أنّها من اختصاص دولٍ أخرى. كان الكوكبُ ينصت إلى خطاب التنصيب من داخل الكابيتول، إيذاناً باستقبال "العالم بحسب ترامب"، في مطلع 2025، حين خطَرَت ببالِ كاتبِ هذه السطور روايةٌ صدرت سنة 1978، "العالم بحسب غارب"، للأميركيّ جون إيرفينغ (1942). تكتسي المصائرُ في هذه الرواية ملامحَ كفاحٍ ملحمي ضدّ عبثيّة الحياة. أمّا في الواقع الترامبيّ فالعبثُ موضوعُ احتفال. إنّه رأسُ المال حين يتغطرس. يكفي أن نستحضر أمنياته الأخيرة: أن يشتري غرينلاند. أن يضع اليد على بنما. أن يجعل من كندا الولاية 51.
في "العالم بحسب غارب"، يبحث الإنسان عن المعنى في حياته. في المقابل، يُقتل كلّ ما هو إنسانيّ في "العالم بحسب ترامب وشركائه". الأولويّة هنا للعنف. البطل في هذا العالم يكتب بالقنابل تغريدات ناريّة من نوع: "تأمين عظمتنا من جديد"، "حراسة العالم الحرّ"، "حقّنا في الدفاع عن النفس" ضدّ "الحيوانات البشريّة". عبارات تستمدّ أدبيّتها وشرعيّتها من عضلات قائلها وسمومه المبيدة. من يحتاج إلى عَدْل النبيّ سليمان ما دام لديه أنيابُ نتنياهيو أو سموتريتش؟ من يحتاج إلى شكسبير عندما يمكنه توظيف إيلون ماسك؟
يضع السردُ حياةَ "غارب" بين قوسين: بداية الشخص ونهاية الشخصيّة. أنجبتهُ أمٌّهُ من جنديٍّ طريح الفراش، غائبٍ عن الوعي، شبيهٍ بالأميرة النائمة في حكاية شرل بيرو (1628 - 1703). حَلَّ الجنديُّ الغائبُ عن الوعي مَحلَّ الأميرة في رواية إيرفينغ، كأنّه نتيجة القُبلة السحريّة. أمّا في العالم الترامبيّ فالبطل يفضّل العَضَّ على التقبيل، والتدمير على البناء. وليس مُستبعداً أن يرى نفسه ذلك الجنديّ النائم، حتى وهو لم يسمع بالرواية أصلاً. إنّه وليدُ غيبوبة العالم. هكذا هو، وهكذا شركاؤه تحديداً، من حكّام الغرب الكاسر وبيادقهم في أنحاء الأرض، أكلة اللحم الآدميّ.
أصبح "غارب" كاتبا مثل أمّه، جيني فيلدز، التي ستغدو بالرغم عنها أيقونة الحركة النسويّة، لأنها قالت في كتابها: "في هذا العالم ذي العقلية الفاسدة، لا يمكن للمرأة أن تكون سوى زوجة رجل أو عاهرته...". أما في "العالم بحسب ترامب وشركائه" فالأبطال تجّارّ خالصون. آلات حاسبة. أدعياءُ فحولةٍ عاجزون عن أن يتحمّلوا امرأةً مثل جيني فيلدز. النساء بالنسبة إليهم كائنات للزينة. تُحَفٌ فوقَ كومودينو الوجاهة. ملحقات أنيقة. ولا يمكن لرائدات الحركة النسويّة في نظرهم أن يكنّ إلاّ شيئًا من اثنين: مُفسِداتٍ للمتعة، أو موضوعًا للسخرية في الخصومات السياسيّة.
يبدو العنف في رواية إيرفينغ قوّةً فوضويّة تضرب بلا تحذير: إنها مأساةُ البشريّة في عدم القدرة على استشراف نهاياتها. أما في الواقع الترامبيّ، فالعنف أداة سياسيّة. ما من شيء، بما في ذلك الكلمات، إلاّ وهو في خدمة الفتك وإحكام السيطرة. الأعداء هنا واضحون: إنّهم كلُّ ما ليس نحن، أي الشعب، أي "أنا" الناطق باسم الشعب، بما في ذلك الشعب نفسه إذا تمرّد. وإذا فعل فإنّ من السهل تجريده من إنسانيّته، وحَيْوَنَتُه، واعتباره نوعًا من الحشرات والآفات، لتشريع قنصه وإبادته. العنف في هذا العالم ليس تهديداً غير متوقّع، إنّه عرضٌ مُدبَّرٌ بعناية لتأبيد الغطرسة المهيمنة.
البطلُ في الرواية أبٌ مُحِبٌّ مفرط في حبّه، وربّما ذاك عيبه. بينما يرى رُعاة البقر الجدد أنّ العلاقات الأسَريّة مجرّد علامات تجاريّة. منصّة دعائيّة. ماكنة لتفريخ الغبالزة (جمع غوبلز). حيث الأبناءُ متحدّثون رسميّون، والأصهار أوراق سياسيّة، ووجباتُ العشاء فُرَصٌ لعقد الاجتماعات وحلِّ الخلافات ورسم الاستراتيجيّات.
"العالم بحسب غارب" رحلة للإقامة في العالم عبْرَ تفكيك ألغاز الحبّ والخوف والموت. مرآةٌ تعكس هشاشة الإنسانيّة. النهاياتُ فيه حميميّة، شخصيّة، مفتوحة على التأمُّل في الفَناء البشريّ، مشيرةً إلى الحاجة لإيجاد معنى رغم كل شيء. أمّا "العالم بحسب ترامب وشركائه" فهو صدْع في المرآة. حرب ضدّ الإنسانيّة. مسرحٌ لإحلال السيمولاكر محلّ الحقيقة. مصانع لتزييف السرديّات. ثقب في الزمن. وعلى "سلالة غارب" أن توحّد الجهود في مشارق الأرض ومغاربها، كي تسدّ هذا الثقب، على أمل ألاّ يشهد العالم موسماً أخيراً، آخر، من مسلسل دمويّ، فظيع، عبَثي، تبدو فيه كلُّ حلقةٍ أكثرَ جنوناً من سابقتها.