العابرون في غرام طنجة
(بلال الحراق)
وقف الرّسام الفرنسي الشّهير هنري ماتيس خائباً نادماً على شاطئ طنجة، عندما صادف طقساً غائماً، وهو القادم من أجل شَمسِها. لكن الشمس حين عادت إلى سماء المدينة أبهرته وأشرقت في ذهنه لوحاتٌ غزيرة.
ويقف غالبية الذين يكتبون عن طنجة وعيونهم على الذين عبروا منها، من كبار الكتّاب والفنّانين. لأنّ هناك شعوراً عاماً يتملّكهم بأنّ أجمل سنوات المدينة تنتمي إلى الماضي، حين كانت قِبلة هؤلاء، قبل أن تصبح قبلة المهاجرين الساعين إلى التسلل إلى إسبانيا على بعد 14 كيلومتراً. وقبل أن يحوّلها سياسيون قصيرو النظر إلى مدينة صناعية تُمجّد شركة "رونو" وشقيقاتها.
لا شكّ في أن آثار العابرين في غرام المدينة من شخصيات ثقافية مهمّة، وعلى وزارة الثقافة المغربية تحويل الأماكن التي كتبوا عنها أو عاشوا فيها إلى وجهات سياحية وثقافية؛ فهناك فنادق وشقق وحانات كانت بطلة عدد من الأعمال الأدبية الخالدة ولم تعد موجودة، بسبب الإهمال، ولكن حصر طنجة فيهم اختزال ظالم لمدينة عظيمة.
لكلّ مدينة وجوهها، ومدن الجنوب، الأقلّ نموّاً، تتغيّر ببطء مقارنة ببقية مدن العالم، فنحن نملك قدراً كبيراً من النّوستالجيا ومن عدم مبالاة المسؤولين بالتاريخ، رغم أنه رصيد يتجاوز الأرقام. عدا عن أن قطار التقدم ثقيل الخطى في سِككنا. لعل ابن بطوطة الابن الأشهر لطنجة، لكن طنجة نفسها مدينةٌ ترحل كلّ يوم إلى العالم، وما فعله ابن بطوطة أنه مشى على طريق مدينته، محمّلاً بتاريخ من السفر، بسبب موقع المدينة في أقصى أفريقيا وعلى بُعد نظرة من أوروبا.
لا أحد يجهل ابن بطوطة، فيما يبحث عن محمد شكري، الكاتب الأشهر الذي كتب عن المدينة التي تبنّته، الذين قرأوا كتاب "الخبز الحافي" فقط. وإن لم يعرف الأجانب شكري، ولم يتعرّفوا على المدينة عبر روايات وأفلام كثيرة دارت فيها، فهم يبحثون عن نقطة التقاء البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وعن شمسها وغروبها، وعن مغارة هرقل والمدينة القديمة..
فيما يبحث العابرون من المغاربة عن سوق "كاسباراطا" أحد أكبر أسواق "البال" في المغرب، مع أن اسمه يعني "السوق الجديد"، ويُزيل هو هذا الالتباس بأن يكون سوق كل شيء يحتاجه الإنسان. وقد يبحثون عن تجربة السندويش الطنجاوي والمختلف المكوّنات. هذا غير طاجين "البيصار" التي تعتبر المدينة عاصمة له، وطاجين تاغرا بالسردين. فيما يفوت أجيالاً جديدة كثيرة تذوق "كالينتي"؛ هذه الوجبة المحلية، الخفيفة على الجيب، والمصنوعة من دقيق الحمص المعجون بالبيض والماء، والمطبوخة في الفرن. لكن لأهل المدينة ذاكرة مختلفة تماماً عن ذاكرة العابرين. لنأخذ الكورنيش مثلاً. فقبل صيغته الحالية، كبرت الأجيال السابقة، وهي تراه كل يوم محاطاً بسكّة القطار. إنشاءُ سكة قطار على طول شاطئ المدينة خطوة سوريالية لأنها حجبته عن النّظر، وجعلت له مدخلاً واحداً. لكن حين أُزيلت السكة والمحطة شعرنا بالفقدان وداهَمتنا النّوستالجيا، لأن السّكة كانت تمنح المكان لمحة رومانسية، إذا غضضنا النّظر عن أنها ليست حاجزاً بيننا وبين البحر. صحيحٌ أننا لم نُحب حجبها له، لكننا أيضاً لم نرغب في محوها كلّياً من الوجود، لأنها جزءٌ من ذاكرة المدينة. وأيّ تغيير فيها لا بد من أن يحتفظ ببعض ملامح الماضي حتى يحفظ تاريخها.
يمنحكَ "البولفار" الشارع الرّئيسي في المدينة، والذي يخترق أهم محاورها صاعداً قلبها هي التي بُنيت في منطقة جبلية، إطلالةً فريدة على البحر، لتكون المدينة الوحيدة التي أنشئت كاملة على البحر، في البلاد. فبين العمارات أزقّة يظهر من خلالها البحر، ويغيب خلف أخرى، ليظهر مرة ثالثة، كأنه يلعب الغميضة. ثم يصلُ بك سور "المعكازين" والخرافات حول اسمه، الذي يعني الكَسالى، وأشهرها وجود سوقٍ قريبٍ كان العائدون منه يرتاحون على تَلَّته المُطلة على البحر. لكن الحقيقة أنّ قصته أبسط، إذ كان في الساحة مكتب مجلّة، فاقتُبس مسمّى "المعكازين" من كلمة "la magazine" الفرنسية.
مثل مدن كثيرة فقدت طنجة جزءاً من تاريخها بسبب الإهمال، لتبدأ تاريخاً آخر في غياب حرص حقيقي على آثار المدينة، ومعالمها. لكنّها تجذب باستمرار أنواعاً مختلفة من العشّاق والعابرين، وتحتفظ بحب أهلها الأبدي.