الطريق إلى الشمال... ذاكرة تقاوم الاحتلال

30 يناير 2025

نازحون فلسطينيون في النصيرات في عودتهم إلى شمال غزّة (26/1/2025 فرانس برس)

+ الخط -

الطريق إلى البيت ليس مُجرَّد رحلة عودة، بل حكاية فلسطينية متجدّدة عن الصمود والانتماء. في غزّة، حيث كلّ شيء يبدو هشّاً تحت وطأة الحرب، تتجلّى واحدةٌ من أعمق صور المقاومة. أولئك الذين قرّروا العودة إلى شمال غزّة، رغم الخراب الذي خلّفته آلة الحرب الإسرائيلية، يقدّمون للعالم درساً في معنى الانتماء. ليس لديهم سقف يؤويهم، ولا مقوّمات للحياة الأساسية، لكنّهم عادوا إلى بيوتهم لأنهم يرفضون أن يكونوا مُجرَّد أرقام في معادلات التهجير.

لقد قال محمود درويش ذات يوم: "الطريق إلى البيت أجمل من البيت"، وكأنه يرسم بحسه الشاعري جوهر التجربة الفلسطينية. هؤلاء الذين عادوا إلى الشمال لم يجدوا بيتاً يحتضنهم، بل أطلال تشهد على بشاعة الحرب. ومع ذلك، فإن طريقهم إلى الأرض هو في حدّ ذاته فعل مقاومة، يحمل في كلّ خطوة فيه تأكيداً على أن البيت ليس مُجرَّد جدران وسقف، بل هو انتماء وذاكرة وحكاية طويلة تُروى عبر الأجيال.

منذ النكبة، والفلسطيني يحمل مفاتيح بيته في جيبه، رمزاً لتاريخ لا ينقطع. ففي ذلك الزمن البعيد، عندما أُجبر الأجداد على مغادرة بيوتهم، أخذوا معهم كلّ ما استطاعوا، ليس فقط من متاع، بل من رموز ومعانٍ. حملوا المفتاح، وصورة البيت، وذكريات الأبواب التي تُفتح على الأزقّة. واليوم، يعيد الأحفاد المشهد نفسه، لكنّهم، بدلاً من الهجرة، يختارون العودة.

ليست هذه العودة فعلاً فردياً، بل رسالة جماعية تتحدّى السياسات كلّها التي حاولت عبر العقود اقتلاع الفلسطيني من أرضه. إنها تحدٍّ مباشر لفكرة أن الفلسطيني يمكن أن يُمحى من المكان، أو أن يُصبح غريباً عن بيته. ففي لحظة كونية تتحدّث فيها تصريحات دولية عن تهجير الفلسطينيين إلى أماكن أخرى، تأتي ردّة الفعل الفلسطيني سريعة ومدهشة؛ العودة إلى شمال غزّة، رغم كلّ الخراب، إعلاناً بأن للأرض أهلها الذين لا يمكن اقتلاعهم.

مشهد طويل في طريق بطول قطاع غزّة، من جنوبه إلى شماله، يحمل بُعداً أسطورياً لأناس يعودون إلى مناطق دُمِّرت بالكامل، من دون ضمانات بحياة كريمة أو أمان، لكنّهم يرفضون الاستسلام. العودة هنا ليست إلى البيوت فقط، بل إلى الحكاية الأولى ذاتها، إلى الجذور التي تربط الفلسطيني بأرضه، فهو لن يكون إلا حيث ينبغي أن يكون.

منذ عقود، والاحتلال يعمل على محاولات الإحلال الديموغرافي، وهي سياسات تعتمد على تهجير السكّان الأصليين، لكنّها تواجه دوماً جداراً من الإرادة الفلسطينية الصُّلبة. وهذه الإرادة، المتجلّية اليوم في العودة إلى شمال غزّة، تحمل معنى عميقاً يتجاوز السياسة، ليصل للجذور الثقافية والحضارية لشعب يتحدّى الجغرافيا متّكئاً على التاريخ.

والبيت، وإن كان قد تحوّل أنقاضاً، يبقى شاهداً على حكايات أصحابه. فهو ليس مُجرَّد مكان للإقامة، بل هو جزء من هُويَّة الفلسطيني، من ذاكرته العميقة، ومن صموده المتجذّر. وفي هذه العودة، يتحقّق المعنى الحقيقي الذي قصده محمود درويش، فالطريق إلى البيت ليس مُجرَّد رحلة مكانية، بل رحلة وجودية تستعيد فيها الأرض أصحابها. وبهذا الفعل، يتحوّل الفلسطيني العائد صورة حيّة للصمود. يعود لأنه يعرف أن الأرض، وإن فُقدت يوماً، يمكن أن تُستعاد. يعود لأنه يرفض أن يكون شاهداً على نكبة جديدة. يعود لأنه يدرك أن وجوده في المكان هو في حدّ ذاته فعل مقاومة، وصفعة لمحاولات التهجير والاقتلاع كلّها.

وكلّ خطوة نحو البيت المدمَّر تحمل في طيّاتها إرادة لا تُقهر، وإعلاناً بأن الفلسطيني ليس مُجرَّد "ساكن"، بل صاحب الأرض الأول والأخير.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.