الضبع الأطرش

الضبع الأطرش

05 أكتوبر 2021
+ الخط -

يُحكى أن راعيا للغنم كان مسترخيا في قيلولةٍ تحت شجرة بلوط، حين داهمته غفوة، رغم قصرها تمكّن خلالها من مشاهدة أحلام وردية كثيرة، ولم يكن يتوقع أبدا أنه، حين يفتح عينيه خارجا من غفوته تلك، سيجد كابوسا يقف أمامه على هيئة ضبعٍ يحدّق فيه بشهية، ويكتشف أن كلابه قد اختفت، وأغنامه وخرافه تقف، وقد تجمّد الهواء في قصباتها الهوائية، والثغاء في حناجرها. لم يدر الراعي ما الذي يمكنه فعله، فقام بحركةٍ لا إراديةٍ أملاها عليه لا وعيه، حيث تناول الناي، وأخذ يعزف ربما كأمنية أخيرة يحقّقها في حياته، ثم سارت الأمور بعكس ما يتوقعه تماما، حيث أَعْجب عزفُه الضبع الذي فتح فمه، وأرخى لسانه وأقعى بمؤخرته على العشب. وما هي إلا دقائق، حتى جاء ضبعٌ آخر أقعى بمؤخرته على العشب قرب زميله، وأخذ يستمع معه إلى عزف الراعي الخلاب، ثم جاء ضبع ثالث ورابع، وسرعان ما اصطفت الضباع، كما لو أنها تتابع عرضا مسرحيا في مسرح الحمراء.
أما الراعي فقد ارتاحت نفسه لإعجاب هذا الجمهور بعزفه، ونسي أنه يقف أمام قطيعٍ متوحش، وازدادت قناعته بأن الموسيقى قادرةٌ على ترويض أعتى الوحوش، فأخذ يرتجل من مخيلته ما لا يخطر في بال عازفٍ من نغمات، وأخذت الضباع تعبّر عن إعجابها بهمهماتٍ لم تكن مألوفةً في عالمها الوحشي، ونسيت لوهلة أنها تنتمي إلى عالم الضباع، حتى حضر الضبع الأطرش الذي شاهد رجلا يقوم بحركاتٍ غير مفهومة، وقطيعا كاملا من الضباع، ينظر إليه بسكينة وهدوء يتناقضان مع غريزته المولعة بالدماء. ولم يتمكن من فهم الموقف، ولم يجد تفسيرا لذلك سوى أن أبناء قبيلته الضباع يشعرون بالتخمة، وإلا لما تركوا هذه الكتلة من اللحم تتراقص أمامهم من دون أن يظهروا أي تفاعل معها. ولم يهدر وقتا كثيرا في التفكير بما عليه فعله، فانقضّ على الراعي، وأرداه أرضا، وفعل ما يفعله الوحش مع طريدته، فنظر كبير الضباع إلى رفاقه متذمرا، وقال: كنت أعرف أن الضبع الأطرش سيفسد كل شيء. 
يا تُرى، لو أن الضبع الأطرش لم يأت ويفعل ما فعله، هل كانت الموسيقى ستستمر؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، عندما نتحدّث عن الضباع، ولكن قصصنا عن الحيوانات هي عن الإنسان، تم تحميلها للحيوان. واعتمادا على هذا المنطق، يمكن القول إن الموسيقى التي أخذت تشذّب أرواح "الضباع" المتوحشة وترتقي بها كانت ستستمر، طالما أن هذه الموسيقى تؤثر فيها، وهي كانت ستتطوّر بالتأكيد، لو لم يأت الضبع الأطرش، ويغيّر مجرى التطور الذي لن يستعيد عافيته إلا بولادة عازفٍ جديد، يكون بمهارة العازف الذي أكله الضبع الأطرش، أي أننا لكي نصلح ما أفسده الضبع الأطرش في خمس دقائق علينا أن نعمل عقدا من الزمن، لكي نربّي عازفا جديدا، ونؤمّن له بيئة خالية من الضباع الطرشان، لكي يستمر أكثر من هذا الراعي، فما بالك إذا كان هناك جيش من الضباع الطرشان يُمسكون بخناق بلداننا التي لم تستمع إلى موسيقى الحرية طويلا، وفقط على شكل نغماتٍ من خلف الجدران. وإذا كانت هذه الضباع عقودا تفسد كل شيء، من الاقتصاد إلى السياسة، مرورا بالتعليم والفن، ولم تترك بنى تحتية وإدارية واجتماعية صالحة للاستخدام، فكم يلزم بلداننا بعد هذه الضباع من العمل، لكي تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي؟ لا بد أن عقدا، وربما قرنا منه، لن يكفي لكي يصلح العطّار ما أفسده الضبع الذي أوقف عجلة التاريخ.

ممدوح حمادة
ممدوح حمادة
كاتب وسيناريست ورسام كاريكاتير سوري