الصين وضغوط أوروبا وأميركا
بينما يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب أقل تشدّداً تجاه الصين هذه الأيام، مقارنة بما بدأ به فترته الرئاسية الثانية، مضت بكين إلى فرض عقوبات على بنكين أوروبيين تمنعهما بموجبها من إجراء معاملاتٍ داخل البلاد، ردّاً على إدراج الاتحاد الأوروبي في الشهر الفائت (يوليو/ تموز) مؤسّستين ماليتين صينيتين على قائمة عقوبات مرتبطة بروسيا. فهل يعني هذا أن الصين باتت تستشعر قدرة أكبر على مواجهة الضغوط؟
من حيث المبدأ، يبدو أن بكين أحسنت إدارة مقدّمات الحرب التجارية مع واشنطن، مستعملة ورقة فرض ضوابط تصدير على المعادن النادرة التي تهيمن الصين على نحو 44% من احتياطها العالمي، ونحو 60% من إنتاجها، و90% من تكريرها، إذ لا يمكن للولايات المتحدة أن تستغني عن استيرادها، لأهميتها في صناعات تكنولوجية مدنية وعسكرية. وهكذا بات استئناف الصين تصدير تلك المعادن إلى أميركا ورقة مقايضة مقابل إعادة النظر في فرض الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، فجرى تمديد التفاوض على تلك الرسوم حتى نوفمبر/ تشرين الثاني، ويبدو الجانبان اليوم أمام فرصة لاتفاق يفضي إلى وقف العمل بالرسوم المتبادلة المرتفعة، وتحديدها عند نسبة لا تتجاوز 30%، بعد أن بلغت 145% من الجانب الأميركي، و125% من الجانب الصيني.
أحسنت بكين إدارة مقدمات الحرب التجارية مع واشنطن، مستعملة ورقة فرض ضوابط تصدير على المعادن النادرة التي تهيمن الصين على نحو 44% من احتياطها العالمي
وعلى الجانب الأوروبي، تخلت الصين عن حذرها أمام العقوبات الاقتصادية التي تتذرّع بالحرب الروسية على أوكرانيا من أجل الضغط على بكين في الملفات التجارية التي يتشارك فيها الطرفان ويتنافسان، منها مسألة إغراق الأسواق الأوروبية بالبضائع الصينية المدعومة حكومياً بشكلٍ يجعل الصناعات الأوروبية غير قادرة على منافستها. وعلى الأغلب، فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية مرتفعة على الواردات من الاتحاد الأوروبي هو ما حرّر خطوات الصين تجاه أوروبا، وجعلها ترد على العقوبات الأوروبية بالمثل، موضحة أن على أوروبا تصحيح أخطائها وعدم الإضرار بمصالح الصين. وتدرك بكين اليوم أكثر من أي وقت مضى حاجة دول الاتحاد الأوروبي إلى الأسواق الصينية إذا واجهت بضائعها مشكلاتٍ في التصدير إلى السوق الأميركية التي تعدّ المستورد الأول للبضائع الأوروبية. كذلك حاجة الأسواق الأوروبية لواردات الطاقة الخضراء الصينية والتكنولوجيا المرتبطة بها. وهذا يعني أن الصين تقول لأوروبا إن طريقة التعامل معها يجب أن تتغيّر، وتصير أكثر ندّية، وأن تبحث أوروبا عن فرص الشراكة العميقة مع الصين، لأن شكل التجارة العالمية يمكن أن يتغيّر إذا أصرّت إدارة ترامب على فرض الرسوم الجمركية على الواردات من الاتحاد الأوروبي، وهو أمر مرجّح نظراً إلى عدم توفر أوروبا على أوراق ضغط كافية على واشنطن.
صحيحٌ أن الاتحاد الأوروبي سعى، في السنوات الأخيرة، إلى خفض الاعتماد على السوق الصينية، بزيادة التعامل مع دول أخرى، مثل الهند وفيتنام والمكسيك، إلى جانب تشجيع التصنيع المحلي في مجالات حساسة مثل الطاقة المتجدّدة وأشباه الموصلات، لتحقيق ما يسميه "تقليل المخاطر"، إلا أن صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الصين بلغت في 2024 نحو 213 مليار يورو، بينما بلغت وارداته منها 519 مليار يورو مثّلت نحو 21% من إجمالي الواردات الأوروبية، ما يشي بصعوبة تحقيق تلك المساعي حالياً، ويعطي الصين اليد العليا في العلاقة التجارية مع أوروبا، إذا ما نجحت بكين فعلاً في التخلص من الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة.
ظلّت بكين تدرك قدرتها على التفاوض وعقد الصفقات مع إدارة ترامب
على الصعيد الاستراتيجي، تبدو الصين اليوم مؤهلة أكثر مما كانت عليه خلال فترة رئاسة جو بايدن وبدايات رئاسة ترامب الثانية، للمضي في خططها الاقتصادية المستقبلية لتصير صاحبة أكبر اقتصاد في العالم قبل حلول منتصف القرن. وهذا يذكّر بما بدا مرجّحاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية حين فضلت بكين عودة ترامب إلى البيت الأبيض على استمرار إدارة ديمقراطية تواصل سياسة الردع المتكامل تجاهها وإثارة المشكلات في محيطها الجغرافي. يبدو أن بكين ظلّت تدرك قدرتها على التفاوض وعقد الصفقات مع إدارة ترامب، نتيجة فهمها شخصيته وسلوكه السياسي، ما كان متعذّراً خلال سنوات بايدن الصعبة. ففضلاً عن اقتراب الصين من أسواق دول جنوب شرق آسيا لتعويض أي نقص في قدراتها التصديرية إلى الولايات المتحدة، تبدو الصين في وضع مثالي بما يتعلق بشراكتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي، بعد أكثر من عشر سنوات من العمل الجادّ في مبادرة الحزام والطريق التي جعلت الوصول إلى الأسواق الأوروبية متاحاً بسلاسة، مقابل حاجة كل من أوروبا والولايات المتحدة للوصول إلى الأسواق الصينية، ومثال ذلك سعي واشنطن إلى إقناع الصين في المفاوضات الجارية بمضاعفة مشترياتها من فول الصويا الأميركي أربعة أضعاف، خدمةً للمزارعين الأميركيين، بحجّة تحقيق توازن نسبي في الميزان التجاري الذي يفيض لصالح الصين بأكثر من 254 مليار دولار بحسب أرقام العام الماضي.
... أكبر مؤشّر على نجاح الصين في التخلص من الضغوط الأميركية (كما الأوروبية) تصريح ترامب خلال مقابلته التلفزيونية أخيراً مع "فوكس نيوز" أن الرئيس الصيني شي جين بينغ أبلغه أن الصين لن تغزو تايوان في أثناء وجوده في منصبه. وليست الأهمية في هذا التصريح أن الصين لن تغزو تايوان في السنوات المقبلة، فهذا محسوم، ولم يكن على أجندة بكين أصلاً، بوجود ترامب أو غيره، بل الأهمية أن واشنطن تتخلى بهذا عن أهم ورقةٍ استعملها بايدن في مواجهة الصين في سنواته الأربع، إذ ظلت مسألة الدفاع عن تايوان، والحيلولة دون أن تبتلعها الصين على طريقة روسيا تجاه أوكرانيا، ذريعته في محاولة حشد الحلفاء ضد بكين، بدل أن يعترف علناً بأن مشكلته مع الصين تمثّلت في تزايد نفوذها الدولي وسعيها إلى تغيير النظام العالمي من أحادي القطبية إلى متعدّد الأقطاب.