الصين والشرق الأوسط والقضية الفلسطينية
بعد مرور ما يقارب العامين على الإبادة الجماعية المستمرّة والتهجير القسري والتدمير والتجويع في غزّة، وإمعان إسرائيل بوصفها قوة استعمارية إحلالية استيطانية إبادية في ممارسة الأشكال المختلفة لجرائم الإبادة من دون محاسبة أو مساءلة أو عقاب، يصبح السؤال عن جدوى المبادئ والقوانين والأنظمة الدولية وفعاليتها وتطبيقيتها أكثر إلحاحاً. وكذلك تصبح الحاجة للإتيان بنظم ومؤسّسات وآليات جديدة لحوكمة هذا العالم أمراً في غاية الأهمية، فإذا ما استمرّ التخلي عن غزّة اليوم، فمن سيكون التالي غداً؟
ويحاجج مراقبون عديدون أن دول الجنوب العالمي أو دول الأغلبية العالمية يمكنهم القيام بمهام قيادية دولية أكبر لتغيير النظم الحاكمية لهذا العالم، كالتي تقوم بها مثلا جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية في لاهاي، أو كالتي يمكن لمجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون القيام بها على سبيل المثال. وفي هذا الصدد، يبرز دوماً النقاش عن دور الصين قوة عالمية رئيسية، ومدى قدرتها أو اهتمامها بقضايا الشرق الأوسط وصراعاته وحساباته وتحالفاته، بما في ذلك النقاش بشأن الدور الذي يمكن أن تلعبه الصين في ملف القضية الفلسطينية بشكل عام، وخصوصاً بشأن قدرتها على إيقاف الإبادة الجماعية المستمرّة في قطاع غزّة.
ولكن من الضروري في هذا الصدد طرح محاججتين للدور الإقليمي والعالمي الذي يمكن أن تلعبه الصين في السياق الحالي المضطرب للشرق الأوسط واستحضارهما. أولاً، يتمثل السؤال الجوهري بماهية "الأولويات الإستراتيجية" للصين قوة عالمية عظمى. لا شك أن هناك "مصالح واهتمامات إستراتيجية" للصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبصورة أكثر تحديداً في منطقة الخليج العربي ودول مجلس التعاون الخليجي، غير أنّ ثمة فارقاً واضحاً بين "المصالح الإستراتيجية" و"الأولويات الإستراتيجية" بالنسبة لقوة كبرى ذات ثقل عالمي كالصين.
ثمة فارق واضح بين "المصالح الإستراتيجية" و"الأولويات الإستراتيجية" بالنسبة لقوة كبرى ذات ثقل عالمي كالصين
ثانياً، دوماً يطرح السؤال المتكرّر: هل يقدّم النموذج الصيني ونهجه الدولي بديلاً قابلاً للتطبيق وللحياة في ميدان القيادة العالمية؟ الإجابة، من حيث المبدأ، نعم، إذا ما رغبت الصين في ذلك، غير أنّه، من منظور إقليمي شرق أوسطي، لا يبدو أنّ هناك ما يكفي من الإرادة السياسية والقيادية الصينية لتحقيق هذا التوجّه. فما نلحظه، في المقام الأول، يتمثل في شراكات اقتصادية كبرى، واختراق دبلوماسي مهم تمثل في التقارب الإيراني – السعودي، بيد أننا نلحظ، في الوقت نفسه، ممارسة براغماتية قائمة على المعاملات والتعاملات السياسية، وخطوات سياسية محدودة ومحسوبة بدقة، يمكن اختزالها في الرسالة التالية: لنقدّم لمنطقة الشرق الأوسط ودول مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص إشارة بأن في وسعها التوجه شرقاً حيث يوجد شريك جذّاب، ولكن من دون أن نفرض أنفسنا عليها كما تفعل الولايات المتحدة.
في ضوء هاتين الملاحظتين الهيكليتين، تبرز حجة مقابلة مفادُها بأنّ الصين تنشط على نحو أكبر خلف الكواليس، بحسب ما يؤكده مسؤولون وصنّاع قرار صينيون، غير أنّ المقاربة الصينية حيال الشرق الأوسط، القائمة على الموازنة بين الطموح والحذر، تثير تساؤلات حول مدى قدرة بكين على رسم المسارات المستقبلية، وحول ما إذا كانت أفعالها ستغدو أكثر وضوحاً وأعلى تأثيراً في تشكيل التصوّرات، بحيث يُنظر إليها فاعلاً يتطلع كذلك إلى ممارسة القيادة العالمية. وفي هذا السياق، يشكّل استمرار حالة عدم الاستقرار الإقليمي اختباراً حقيقياً للتكلفة البديلة لاستراتيجيتها القائمة على تجنّب المخاطر. إذ تمثّل الصين اليوم شريكاً اقتصادياً رئيسيّاً لمعظم دول المنطقة، إذ بلغت التجارة بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 368 مليار دولار في 2022، وهو مبلغ مذهل مقارنةً بـ144 مليار دولار بين الولايات المتحدة والمنطقة في العام نفسه. وبلغت قيمة الاستثمارات الصينيّة المتراكمة وتمويل التنمية في المنطقة 152 مليار دولار بين عامَي 2013 و2021. وقد زوّدت المنطقةُ حوالي نصف إجمالي واردات الصين من النفط الخام في العام 2023.
وعليه، يمكن تفسير سياسة الصين وإمكانية تطوّرها في المستقبل بأربعة طرق على الأقل. التفسير الأول، أنّه على الرغم من توسّع التجارة والاستثمار وصورة بكين المتنامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تكتفي الصين بالبقاء بعيدة عن الأضواء وبحرية التصرّف لتجنّب التورّط في الصراعات الإقليمية المعقّدة، وتواصل التركيز على بناء روابط اقتصادية مع الأطراف كافة استناداً إلى مبدأي الحياد وعدم التدخّل. ويُشدّد التفسير الثاني على أهميّة المنطقة الحيويّة بالنسبة إلى الصين لمواردها من الطاقة وموقعها الجيوستراتيجي للتجارة البحريّة مع أوروبا وأفريقيا، لتفسير السبب وراء اهتمام القيادة العليا الصينية المتزايد بالمنطقة. ونتيجة لذلك، أصبحت بكين أكثر استباقية في انخراطها مع المنطقة.
ثمة خيارات عدة للصين كطرح ائتلاف جديد للوساطة من أجل السلام، وإعادة الإعمار، والتنمية لتبني على مساهماتها في ملف المصالحة الفلسطينية– الفلسطينية
أمّا التفسير الثالث، فهو أنّ تمسّك الصين المستمرّ بسياسة الحياد ومبدأ عدم التدخّل لم يعد يخدم مصالحها المتنامية في المنطقة أو مكانتها بوصفها قوة عظمى صاعدة. ويتمحور التفسير الرابع حول القيود الكبيرة التي تواجه بكين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حال سعت إلى تحدّي مكانة الولايات المتحدة. ولكن تظلّ بكين في النهاية قوة حذرة حقّقت إنجازات كبرى من خلال تبنّيها مقاربة بعيدة عن الأضواء تركّز على الأهداف التجاريّة في المنطقة، ومن المرجّح أن تواصل تفضيلها مقاربة طويلة الأمد وصبورة ومدروسة بعناية تعتمد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ترتكز على مبادرة الحزام والطريق والمؤسّسات المتعدّدة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي للتعاون والبريكس+ لتحقيق تقدّم ثابت.
فيما يتعلق بفلسطين، السؤال في نهاية المطاف: هل يمكن، أو هل تهتم الصين فعلاً بالدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة حول القضية الفلسطينية؟ إلى حين معرفة الإجابة، ثمة خيارات عدة للصين، لتنخرط فيها كطرح ائتلاف جديد للوساطة من أجل السلام، وإعادة الإعمار، والتنمية لتبني على مساهماتها في ملف المصالحة الفلسطينية– الفلسطينية والوساطة بين السعودية وإيران. كذلك يمكنها الاستثمار في إعادة ابتكار وإقامة مؤسّسات الحوكمة العالمية كالأمم المتحدة ومؤسّساتها، وليس فقط الانخراط في محاولة إصلاحها، فالخلل بنيوي وجوهري ويتطلب تقديم فعل راديكالي يعنون الخلل من الجذور. وعلى الصين أيضاً فرض عقوبات صارمة على إسرائيل لقيادة العالم من خلال نموذج يُحتذى به فيما يتعلق بالمساءلة، وإبراز قيادة ذات أهمية وذات صلة لتحقيق السلام العالمي. ولكن على الصين وغيرها من الفاعلين إدراك حقيقة المرحلة وتاريخيّتها، فالتدخل القيادي يحتّم الإيمان بأن اللحظة الحالية تتطلب بالمقام الأول تلبية الواجب الأخلاقي والقانوني والسياسي والإنساني.