الصوابية السياسية بين ترامب وماريوت وتويتر

الصوابية السياسية بين ترامب وماريوت وتويتر

15 يناير 2021
+ الخط -

في زحمة الجدل المستحق الذي أطلقه اقتحام الكونغرس الأميركي، شهدت البلاد فصلًا مهمًا من فصول الاحتكام لما تسمى "الصوابية السياسية". شركة ماريوت، أكبر شركة فنادق في العالم، أعلنت أنها ستعلق التبرّعات التي تمنحها للمشرعين الأميركيين الذين صوّتوا ضد التصديق على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن. وبحسب استطلاع رأي، قررت أكثر من مائة شركة مراجعة "معايير التبرّعات"، وضمن من قرّروا المراجعة "سيتي غروب". والمسارات الجانبية التي تتفرّع عن هذا المسار كثيرةٌ، وجميعها مهمة، فالتحرّك باتجاه ما يمكن اعتبارها "مسؤولية أخلاقية للمال السياسي" نقلة نوعية كبيرة في مجتمع سياسة كان خلال السنوات القليلة الماضية يموج بالتساؤلات والاتهامات الصريحة الضمنية، بسبب مخاطر لعبة "شراء النفوذ"، وبخاصة ما تدفق من أموال من عواصم عربية بعينها. ومسؤولية المال السياسي في بلد تلتهم فيه آلة السياسة كل هذه المليارات من الدولارات يمكن أن يسهم في إعادة هيكلة عالم السياسة. وفي ظل الاعتراف القانوني بجماعات الضغط في النظام الأميركي، وكذلك التأثير المتنامي لمؤسسات البحث (think tank) ستكون حركة المال السياسي أكثر تعقيدًا مما كان سابقًا، وسيكون أصحاب المصالح، باختلاف أنواعهم، عُرضة لأشكال من المساءلة، رسمية أو غير رسمية، لم يألفها مجتمع سياسة نشأ وترعرع على تقديس الحرية.

من كان يتخيل، قبل سنوات معدودة، أن يشعل وقف حساب رئيس الدولة الأكبر في العالم كل هذا التراشق اللفظي والفكري

ومنذ سنوات، تشهد أميركا جدلًا حول التعارض، الفعلي أو المحتمل، بين مفهومين، الصوابية السياسية والحرية. ويستخدم المصطلح الجديد نسبيًا لوصف حزمةٍ مطّاطة من المفاهيم والرموز والأفكار، يعد إنكارها أو انتهاكها خروجًا على القيم التي ينبغي احترامها. وقد كانت أوروبا أسبق إلى تفعيل ما يترتب على "الصوابية السياسية"، عبر سن قوانين تجريم إنكار الهولوكوست. والقائمة في بعض الدول الغربية تطول لتشمل خطاب الكراهية والتحريض على العنف والتفسيرات التآمرية ... ... بل، معاداة المثليين!
وفي العالمين، العربي والإسلامي، لم يفكر أحد في مطالبة أية عاصمة غربية بـ "تجريم إنكار الهولوكوست الفلسطيني" المستمر منذ ما يزيد عن نصف قرن، فضلًا عن أن تشهد أيٌّ من عواصمنا صدور تشريعٍ مماثل. والفضاء الذي تتحرّك فيه الفكرة مثير للجدل بالفعل، وازداد هذا الجدل احتدامًا مع التوسع الهائل لمجتمعات "السوشيال ميديا"، وبالتالي تضخم تأثيرها، ومن كان يتخيل، قبل سنوات معدودة، أن يشعل وقف حساب رئيس الدولة الأكبر في العالم كل هذا التراشق اللفظي والفكري. وقد ذكّرني هذا الجدل بفكرة، كأنها حُفرت في ذاكرتي حفرًا، تلك التي أوردها الكاتب الأميركي، والتر جي. أونج ،"الشفاهية والكتابية"، والتي تساءل فيها، وهو يناقش ظاهرة "حرق الكتب"، عن الكتاب الذي "يتلو الباطل"، وكيف يسوغ تركه يفعل ذلك دائمًا!

يطرح قرار شركة ماريوت التساؤل الأكثر عمقًا عن منطق الفصل والوصل بين الظواهر، وحدود المسؤوليات

وقد منحت "السوشيال ميديا" كل شخص وكل جماعة منبرها الخاص بـ "كبسة زر"، وعندما راحت السكرة وجاءت الدماء، انفتح جرح الاستخدام المدمر لهذا الفضاء، عبر تجنيد الذئاب المنفردة، ونشر دعوات إلى إبادة مسلمي ميانمار، ثم واقعة التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية الماضية. وقد تم التحقيق في الكونغرس الأميركي مع مارك زوكربيرغ عن التدخل الروسي، وتبين أن أقل من عشرة حسابات مشبوهة تمت إعادة تشر تدويناتها أكثر من مائة مليون مرة، كما كشف خبراءٌ عن أن الأخبار الكاذبة والتفسيرات التآمرية تنتشر أكثر من الأخبار الصادقة 1500 مرة!
والمسؤولية عما ينشر على وسائل الإعلام الاجتماعي، قانونية كانت أم سياسية أم أخلاقية وحسب، كانت وما تزال موضوع جدل بين الإدراة الأميركية والسيليكون، منذ نهاية عهد الرئيس أوباما. 
ويطرح قرار شركة ماريوت التساؤل الأكثر عمقًا عن منطق الفصل والوصل بين الظواهر، وحدود المسؤوليات التي ينبغي تحملها قبل اتخاذ قرار التبرّع لفرد أو حزب، وقد تنتهي هذه الدوامة التي تشهدها أميركا بتشريعاتٍ تجعل لمثل هذه التبرّعات عواقب قانونية. وكما قال الرئيس المنتخب، جوزيف بايدن، عقب اقتحام الكونغرس بقليل، إن الديمقراطية تصبح ضعيفة إذا لم يكن من يمارسونها ديمقراطيين، فالقناعات الفكرية والأخلاقية للنخبة السياسية لا يمكن إغفالها اكتفاءً بما في الدستور من ضمانات، وما في القانون من أشكالٍ تنظيميةٍ دقيقة. و"الاعتبارات الأخلاقية" و"المعايير" تفتح الباب واسعًا لتنظيم حركة المال وتأثير منابر الكذب ذات التأثير الكاسح، وتلك مجرد بداية.