الصدر يفتح النار... و"التنسيقي" يغرق في الفوضى
في خطوة جاءت على خلاف التوقّعات، دعا زعيم التيّار الصدري في العراق مقتدى الصدر أتباعه ومناصريه إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية، المقرّر إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، ووصفها بأنها "عرجاء ولا همَّ لها إلا المصالح الطائفية والحزبية، وبعيدة كلّ البعد عن معاناة الشعب"، وتساءل: "أيّ فائدة ترجى من مشاركة الفاسدين والتبعيين، والعراق يعيش أنفاسه الأخيرة بعد هيمنة الخارج وقوى الدولة العميقة على كلّ مفاصله".
اعتاد الصدر، الذي يمتلك شعبيةً واسعةً داخل الأوساط الشيعية الفقيرة، رمي الأحجار في مياه راكدة، لكنّه هذه المرّة يرمي حجراً في مياه مضطربة، فيزيدها اضطراباً وهيجاناً، خاصّة أنه قرَن خطوته هذه بالتنديد بواقع حال "العملية السياسية" الماثلة، متّهماً رجالها "بزجّ العراق وشعبه في محارق لا ناقةَ له فيها ولا جمل"، وسبّبت دعوته الجديدة إرباكا داخل قوى "الإطار التنسيقي" للقوى الشيعية، التي تنظر إلى وجود التيّار الصدري في الساحة السياسية "صمّام أمان" يخفّف احتقان الشارع بما يطرحه من وعود ومعالجاتٍ لا تؤثّر في جوهرها عملياً على الطبيعة الطائفية التي تقوم عليها العملية السياسية، ويحمي قوى "الإطار" نفسها من التفكّك، ويكسبها زخماً افتقدته منذ سحب نوّابه في عام 2022، معلناً اعتزاله العمل السياسي. وفي حينها، أوفدت قوى "الإطار" أكثر من مبعوث لحمله على التراجع عن قراره، لكنّه ظلّ رافضاً لأيّ مسعى من هذا القبيل، ورفض حتى استقبال المبعوثين. وفي الذاكرة أيضاً مقترحه الذي روّجه قبل سنتَين بتخلّي الأحزاب (بما فيها التيّار الصدري) عن المناصب الحكومية. وبالطبع، جوبه مقترحه بالرفض من رجال الحكم، لأنه قد يفقدهم امتيازاتهم ومصالحهم، كما لم يحصل المقترح على قبول إيران، وهي الراعية للعملية السياسية والحامية لها، وربّما وجدت فيه نيّةً مقصودةً لتغييب وكلائها من المشهد. وبالتالي، فقدانها هيمنتها المباشرة على القرار السياسي في العراق.
ومعروفٌ عن الصدر أنه كان من أبرز أعمدة "العملية السياسية" الطائفية، التي جاء بها الأميركيون، إلا أنه يتحدّث دائماً عن "ثورة إصلاح"، وضرورة "تغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات"، ويظهر في هذه المرّة وكأنّه يريد توجيه ضربة إلى "الإطار التنسيقي"، منتظراً أن يدخل خصومه في دوّامة فوضى، ومتمسّكاً بالمثل الصيني "استلق على الشاطئ، ودع الأمور تجري، وسوف تكتشف في النهاية أن المياه الهائجة ستقذف إلى الشاطئ جثث أعدائك".
ستظلّ الحلول المطروحة للأزمة العراقية، التي امتدّت أكثر من 22 عاماً، حلولاً ترقيعيةً، ولا تنال من جوهر "العملية السياسية"
هكذا يبدو المشهد السياسي هذه الأيّام، حاملاً المتناقضات والفوضى، بما يجعل المواطن العادي ضحيّةَ حالةٍ عدم اليقين، وهو الذي كان ينتظر أن تسعفه العملية الانتخابية المقبلة بمن يضيء شمعةً له في آخر النفق، ويمنحه جرعة أمل باتجاه التغيير المطلوب، رغم أنه اكتشف من تجربته مع حكّامه (في العقدَين الماضيَين) أنه في كلّ موسم انتخابي ترتفع نبرة الحديث عن إصلاحات وتغيير وتحوّل، وما يحصل في النهاية لا يعدو كونه "إعادة إنتاج" للعملية السياسية، التي تقوم على أساس الفرز والتقسيم الطائفي، وفي كلّ مرّة تظلّ الرؤوس الكبيرة تراوح في مكانها، ولا شيء يحدث كما لا أحد يجيء، وسوف يبقى الصدر، هو الآخر، أسير تقلّباته ومناوراته، من دون أن يحقّق شيئاً، في الوقت الذي يزعم مقرّبون منه أنه فقد صبره، ولم يجد بدّاً من أن يتقدّم لإطلاق رصاصة الرحمة على العملية السياسية الماثلة من خلال مقاطعة الانتخابات المقبلة، والدعوة إلى عملية سياسية جديدة "من غير فاسدين ولا تابعين للخارج"، مراهناً على أن المتغيّرات الجديدة المحيطة بالعراق يمكن أن تساعد على الوصول إلى ما يريده.
في ظلّ هذا المشهد المعتم، تعمد "الدولة العميقة"، التي تضمّ رجال المليشيات ومافيات الفساد والجريمة المنظّمة، إلى لملمة صفوفها، واستثمار الفوضى القائمة وتكريسها سعياً إلى الدوران حول نفسها من جديد، كي تعيد إنتاج منظومتها، وهذا ما يجعل من العملية الانتخابية المقبلة (إن قدّر لها أن تتحقّق) نوعاً من الكوميديا السوداء، التي تفاقم المساوئ والشرور، ولا تخفّف منها، كما ستظلّ الحلول المطروحة للأزمة العراقية، التي امتدّت أكثر من 22 عاماً، حلولاً ترقيعيةً، ولا تنال من جوهر "العملية السياسية" الماثلة، ولا من امتداداتها الاجتماعية والاقتصادية، وسوف يعيش العراقيون وقتاً أطول قبل أن يصلوا إلى حلّ.