الشعبُ النّرد

12 ابريل 2025
+ الخط -

في عام 1971، نشر الكاتب الأميركيّ لوك راينهارت، واسمه الحقيقيّ جورج كوكروفت (1932-2020)، روايةً بعنوان "الرجل النّرد". وهي سيرة ذاتيّة مُتَخيَّلة لطبيبٍ نفساني، تَثقل عليه الحياة بين أفراد أسرته، وهم زوجتُه ليليان وولداه إيفي ولاري، ويشعر بالرتابة في محيطه الاجتماعي الأوسع في نيويورك، بين مرضاه وزملائه وأصدقائه. وذات ليلة، في لحظة شبه عجائبيّة، يقرّر أن يحتكم إلى المصادفة، وأن يلقي حجارة النّرد في الفضاء لتحديد خياراته.

رواية دخلت معظم لغات العالم (ربّما باستثناء العربيّة)، ولفتت الانتباه بما طرحته من أسئلة حارقة: أيّ دور للمصادفات في مسيرة الإنسان؟ ما الحظّ؟ هل توجد حريّة مطلقة؟ ما حدود الخير والشرّ؟ أسئلة غادرت الحقلَ الأدبيّ بعد أكثر من نصف قرن، وبعد أنّ قرّر كِبارُ ساسة العالم أن يكشّروا عن أنياب لعبتهم الدولية، بكلّ غطرسة، مترجمين نظرية "الرجل النّرد" إلى واقع "الشعب النّرد"، بطريقة أكثر فوضويةً وأكثر فظاظة.

لا تختلف حركات الساسة، على سبيل المثال، عن رمية لاعب النّرد الروائيّ، لولا أن الملفّات الموضوعة فوق الطاولة وتحتها، هي التي حلّت محلّ مكعّبات البلاستيك. يقف ممثّل دولةٍ عُظمى، ملقياً ملفّه النّرديّ في فضاء القاعة، فيفعل الآخر الشيء نفسه: حسناً أيها السادة؛ صفقة من هنا، اتفاق من هناك، هذا الوجه أو ذاك من وجوه المكعّبات البلاستيكيّة. والنتيجة؛ ترفيع في الضرائب الجبائيّة، قرار بسنّ عقوبات، وقف إطلاق نار، تعبير عن القلق العميق. وبين هذا وذاك، يُضافُ بيانٌ جديدٌ إلى أرشيف التصريحات الجوفاء. أمّا البشر، أمّا الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والأبرياء، أمّا المُحاصَرون والجوعى والمشرّدون والمُهجَّرون، في مختلف بلاد العالم، فيمكنهم أن يناموا على وقع الانفجارات، في انتظار المعجزات، مطمئنّين إلى أن المجتمع الدولي يشعر بقلق عميق حيال معاناتهم القاسية.

في رواية "الرجل النّرد"، اعتاد البطل أن يختار أفعاله بناءً على أرقام المصادفة، أمّا في زمننا، فإنّ الأرقام لا تتحكّم بالأفعال، بل تتحكّم بالحقيقة نفسها. لا يهمّها باطل أم حقّ، عدوان أم دفاع عن النفس، بقدر ما يهمّها الطرف المعنيّ. فالبشر غير متساوين، والأعراق غير متساوية، والدم ليس واحداً، والقتيلُ الواحد هنا يعادله آلاف القتلى في الجانب الآخر، والمقاوم هنا إرهابيٌّ هناك، بينما الإرهابيُّ هنا بطلٌ مغوار هناك. هكذا تقول رمية النّرد.

النّرد في الرواية هو صاحب القرار، أمّا في الواقع الراهن فإنّ النّرد في قبضة الإعلام، ومُفَبْركي السرديّات، وسدنة التحليل العشوائي، المنفصلين عن كلّ منطق، إلى حدّ أنّ النّرد نفسه يشعر بالدوار(!)، وإذا اعتقدت أن لوك راينهارت كان متطرّفاً عندما سمح لبطله بأن يختار بين القتل والسرقة والتدمير بمجرّد رمية نرد، فأنت لم ترَ بعد كيف يعمل القانون الدولي اليوم.

ثمّة أسئلة من العار طرحها: هل من حقّ الطاغية أن ينقلب على القانون وعلى شعبه؟ هل يحقّ لدولة أن تتوسّع على حساب جيرانها؟ هل من حقّ دول بعينها أن تمارس الاحتلال والقتل والإبادة؟ هل من حقّ دول بعينها أن تمتلك السلاح النووي؟ هل من حقّ مواطني دول بعينها أن يكونوا في مَنَعة من كلّ حساب أو عقاب؟... أسئلة تخرج بطارحها من نطاق الإنسانيّة أصلاً، لكنّ رمية النّرد تمحو كلّ بشاعة، خاصّة حين تجعلك رميةُ النّرد الأولى ابنَ "شعب الله المختار"، أو مواطنَ "أكبر دولة في العالم".

الحياةُ العشوائيّة أكثرُ إثارة. بهذا برّر بطلُ "الرجل النّرد" أفعاله؛ غيّر تعامله مع أسرته، غيّر عمَله، ألّف كتاباً، ارتكب جرائمَ على "كيفِ" حجارة النّرد، لأنّ الحياة المبنية على قيمٍ ومنطقٍ وقواعدَ حياةٌ لا تُطاق في نظره، ولأنّ السعادة لا تأتي إلّا من المصادفة والفوضى، إلّا أن ضربة النّرد لا تلبث أن تنقلب على نفسها. هكذا تشهد الرواية على صعود البطل وسقوطه، وسقوط المجتمع معه، نتيجة تحوّل العشوائية ديانةً جديدة. أمّا في الحياة الواقعية (لا فرق بين الواقع والخيال هنا)، فإنّ انخرام التوازن الذي تسبّبه العشوائية حين توهم بالحرية، يستدعي بالضرورة الشعبويةَ المقيتة، التي تمسخ الشعب مُكعّبات تلهو بها الأصابع والرياح، فيما هو يُنشِد (مع الاعتذار لتميم بن مقبل)، "ما أطيب العيش لو أن الشعبَ نردٌ/ تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ".

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.