الشرع وإنذار أخير في السويداء
مسلحون من العشائر في شارع في السويداء (18/7/2025 Getty)
أشار الرئيس السوري أحمد الشرع في القمّة العربية الطارئة في القاهرة (فبراير/ شباط الماضي) إلى إسرائيل بـ"العدو" و"الاحتلال"، متمسّكاً باتفاقية فكّ الاشتباك لعام 1974، مطالباً بوقف العدوان الإسرائيلي على سورية. سرعان ما تبدّل الخطاب، وسقطت مفردات المواجهة، وبدأ النظام الجديد يسحب من القاموس السوري ما يشير إلى العداء، ويؤسّس مرحلةً جديدةً عنوانها "التفاهم"، مع "إسرائيل".
لم يكن التحوّل اعتباطياً، إذ كانت هناك مساعٍ (مُعلَنة) لتسويةٍ ما، رُوّج أن هدفها رفع العقوبات وتحقيق إنعاش اقتصادي سريع، من دون أن تُعلَن أثمانها السياسية المحتملة. رافَقت ذلك حملة إعلامية شارك فيها فنّانون ومؤثّرون وصحافيون سوّقوا التطبيع نهايةً لـ"مسرحية الممانعة" التي أتقنها نظام الأسد، بعضهم تجاوز ما كانت "خطوطاً حمراء"، معلناً استعداده للتنازل عن الجولان (أو تقاسمها) في سبيل الخلاص. وبينما روّج الخطاب الرسمي "براغماتيةً سياسيةً"، بدا الشارع المنهك أكثر استعداداً لتطبيع مُنقِذ، وتحدّث سوريون في تقارير مصوّرة محلية (علناً) كاسرين "تابوهات" الأمس، التي بدت مباحةً في قوانين سلطة الشرع. لم يُبنَ هذا القبول الشعبي الظاهري على وعي سياسي، بل على تعبٍ جماعي، وغياب بدائلَ وطنيةٍ واضحة. لم يسأل السوريون عن نوع السلام الذي يُحضَّر، ولا عن ثمن تلك "المصالحة". سقطت الأسئلة مع سقوط النظام القديم، وسادت فكرة "السلام بأيّ ثمن".
اختار الشرع طريقاً "أقصر"، نحو الخارج، ولم يفهم أنه لا سلام خارجياً من دون سلام داخلي، في وقتٍ لا مؤسّسات قويةً تحمي الداخل، ولا جيشاً موحداً، ولا جهازاً أمنياً محلّ ثقة، ولا عقداً اجتماعياً جديداً. بدا ما يسعى إليه قفزة في فراغ، فكانت الإخفاقات أسرع منه، وفي السويداء اصطدمت الأوهام بالواقع. ما جرى هناك لم يكن اشتباكاً عابراً، بل هو انفجار متأخّر لكلّ ما تجاهله الشرع: التهميش، والاحتقان الطائفي، وغياب الأمن، وتضارب الولاءات... تحوّلت السويداء ساحة قتالٍ مفتوحةً بين الدروز وبعض العشائر. وفيما كان حكمت الهجري يُدان لاستقوائه بإسرائيل، كان التحشيد الطائفي يجرّد الدروز جميعهم من وطنيّتهم. وإسرائيل التي دخلت من الباب الخلفي، مدّعية حماية الدروز، قصفت أهدافاً عسكريةً سوريةً لا تمتّ في معظمها لخطوط التماس بصلة. لم تأتِ لحماية أحد، بل وجدت في الشرخ الطائفي فرصةً لتوسيع نفوذها. لم يتعلّم الشرع أن الطغيان يجلب الغزاة، ومثلما حمى الأسد نفسه بالخارج (روسيا وإيران)، استقوى سوريون بقوىً خارجية، بما فيها إسرائيل. ففي سنوات الثورة، عولج مسلّحون سوريون في مستشفيات إسرائيلية (في صفد خصوصاً)، وسلّحت إسرائيل مجموعات معارضة لمنع مليشيات تدعمها إيران، ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، من الوجود عند "حدودها"، وطالب معارضون بأن تجتاح إسرائيل القنيطرة ودرعا، وشكرها آخرون لقصفها قواعد صاروخية في مطار المزّة، بحجّة أنها كانت مجهزة لقتل أطفال حلب (نقول ذلك في سياق تفسيري لا تبريري). هلّل سوريون وشمِتوا بقصف إسرائيل أهدافاً في سورية، كما هلّلوا منذ وقت قصير بحرب إسرائيل على إيران. والمفارقة أن الشرع، إمّا سمح بعبور الطيران الإسرائيلي الأجواء السورية لقصف إيران، أو أنه تنازل عن السيادة السورية مرغماً، واستمرّ يحارب "العدو" المتوغّل في الأراضي السورية بالدبلوماسية، ويحاور الداخل المتوجّس من الاستئثار بالسلطة بالسلاح.
اصطدمت مغامرة "التسوية" مع الاحتلال بالابتزاز والضغط، ولم تُرفع العقوبات كاملةً (قانون قيصر)، ولم يتحقّق الاستقرار ولا التعافي. ما تحقّق انكشاف كامل سياسياً وأخلاقياً وسيادياً. كان من المفترض أن تكون المرحلة الانتقالية بداية إعادة بناء، لكن الشرع أدارها صفقةً تجارية. لم يقرأ هشاشة المجتمع، ولم يفهم عمق الاحتقان، ولم يدرك أن أيّ تسوية سياسية تحتاج، قبل أي شيء، إلى عقد داخلي جديد، يشعر فيه السوريون بالأمان والكرامة والانتماء، ويتّفقون فيه على البدائل الوطنية للمواجهة. بعد مجازر الساحل، فإنّ مجازر السويداء أيضاً كلفةٌ مباشرة للفشل، لكنّها ليست النهاية، هي جرس إنذار أخير، إن استمرّ الرئيس في المسار نفسه.
لا يمكن تطبيع ما هو غير طبيعي، والسلام معه من موقع الضعيف ابتزاز، ولأنّني فلسطيني سوري، أدرك من نكباتنا المتلاحقة أن إسرائيل ليست نصيراً لأحد، هي عدوٌّ لمن مدّ يده إليها ولمن رفع السلاح ضدّها. هي حليف مصالحها العنصرية التوسّعية فقط. الفارقُ أنه ليس للفلسطينيين دولة ينطلقون منها لنيل حقوقهم، أمّا السوريون فلديهم ما يمكن إنقاذه منها بنظام سياسي يكفل حقّ المواطنة للجميع.