الشائن والمثير في عاصفة الكونغرس

الشائن والمثير في عاصفة الكونغرس

18 يناير 2021
+ الخط -

بعد اقتحام أنصار الرئيس الأميركي الخاسر، دونالد ترامب، مبنى الكونغرس، تبدو النُّخبة السياسية، في الولايات المتحدة، أكثر سُخْطًا، وقلقًا على صورة دولتهم الرائدة في الديمقراطية، والمتباهية بنموذجها الراسخ فيها، وهي تدرك آثار الاقتحام الخطير، عالميًّا، سيَّما لجهة توظيفه من الدول المنافسة، وغير الديمقراطية، أصلًا، وفي مقدِّمتها الصين وروسيا، ثم تداعيات تلك الهزَّة العنيفة، والصادمة في المنطقة العربية، وغيرها، وهي على أعتاب مرحلةٍ جديدة، يدشِّنها الرئيسُ الديمقراطي، جو بايدن، المبشِّر باتجاهٍ أكثر ديمقراطيةً وعدالة، وهو الذي اعتُمد رئيسًا، رسميًّا، ونهائيًّا، بعد جدلٍ واسع ومقلق قاده ترامب. وبدا السُّخْط واضحًا، في تشبيه سياسيين أميركيين بارزين، (ومنهم الرئيس الجمهوري الأسبق، جورج بوش الابن)، أميركا بجمهورية الموز، وفي تقديم وزيرتين استقالتيهما من إدارة ترامب؛ ردًّا على "أحداث الكابيتول".
وعلى المستوى العالمي، تتابعت التنديدات، على هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، (ومن شعبها نفسه)، كما من دولٍ أوروبية، منها ألمانيا، وبريطانيا على لسان رئيس وزرائها بوريس جونسون الذي ربطته صداقة سابقة بترامب؛ إذ حمّل الأخير المسؤولية؛ وقال "ترامب مخطئ تمامًا، في تشجيع أنصاره على اقتحام مبنى الكونغرس".

بالتوازي مع مطالبة بنس بإقالة ترامب؛ بالاستناد إلى التعديل الخامس والعشرين، بدأ مجلس النواب إجراءات عزله

هل ما حدث من نوع الخروق والانحرافات التي تستطيع الديمقراطية الأميركية تجاوزه، ومعالجته؟ كما رأى النائب الديمقراطي توم مالينوفسكي، الذي قال: "رسالتنا إلى العالم لم تكن أبدًا أننا مثاليُّون. لدينا نظام قادر على تصحيح عيوبه"؟ أم أن ما حدث ترك جُرحًا يصعب اندماله؛ لكونه مؤشّرًا على تحوُّلات تنفذ إلى البنية الفكرية، لدى أوساط عريضة في الشعب الأميركي؟ وفي صُلْب هذا السؤال سؤالٌ عن كيفية المعالجة والتعامل مع الرئيس الذي تسبِّب، على نحو صارخ، في تلك المَثْلَبة، وذلك الثَّلم لصرح الديمقراطية، وفي قلب الكونغرس؛ قلعة الديمقراطية الأميركية، بما لها من رمزية عالية، فقد أصاب الانتهاك، مكانًا، مركزيًّا، وزمانًا، بالغ الرمزية، في تسليم الحكم وتسلّمه؛ هل سيُعزَل، أم يوبّخ، ويدان، أم سيتُجاوَز عنه؛ تحت وطأة تأثيره، وخطورة المساس به؟
جاءت هذه الفعلة المشينة، بعد أن استنفد ترامب الوسائل القانونية والقضائية، وبعد أن يئِس من اصطفاف الجمهوريين في الكونغرس معه، وذلك بعد موقف زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، الذي رفض ادِّعاءات ترامب، بسرقة الفوز منه، برغم رفض القضاء ذلك، وقال: "إذا سرنا وراء تلك الادِّعاءات، فنحن ندمِّر ديمقراطيتنا"، محذّرًا، في حال حصول ذلك، من "دوَّامة قاتلة". وبعد إصرار نائب الرئيس ترامب، مايك بنس، على رفض ضغوط ترامب، بحجب المصادقة على فوز بايدن، أطلق ترامب آخر سهامه؛ فكان ارتداده عليه أكبر منه على خصومه؛ فاكتسب السعي إلى عزله مزيدًا من الوجاهة والزَّخَم، على الرغم من رفض بنس، ممارسة صلاحياته التي تخوّله عزل ترامب، بعد مطالبات الديمقراطيين، وبعض الجمهوريين بذلك، إذ قال إنه لن يُفعّل التعديل الخامس والعشرين. .. التعديل الدستوري الذي يقضي بأن يبادر نائب الرئيس إلى تأليب غالبية أركان الإدارة ضد الرئيس، على قاعدة أنه لم يعد قادرًا على النهوض بمهامه، ثم إبلاغ الكونغرس بالأمر؛ إلا أن كل هذا الاقتراب من معاقبة ترامب يصبُّ، (ولو أنه قد لا يخلو من اعتبارات حزبية تنافسية) في صيانة الدستور، والديمقراطية من اعتداءاتٍ مستقبليةٍ، فلا بدَّ من التجريم، والإدانة ونزع الشرعية عن أيّ مساعٍ، أو طموحات، أو وسائل، غير دستورية. وبالتوازي مع مطالبة بنس بإقالة ترامب؛ بالاستناد إلى التعديل الخامس والعشرين، بدأ مجلس النواب إجراءات عزل ترامب، على قاعدة افتقاده القدرة على النهوض بمهامه؛ لاضطرابه، وخطورة قراراته، ولكونه أصبح يشكّل "تهديدًا وشيكًا"، وبسبب اتهامه بالتحريض على اقتحام الكونغرس.

لم يمتد التواطؤ مع ترامب، من دون قيد، فقد بدأ الحزب الجمهوري، ممثَّلًا في زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، بنزع الغطاء عنه

لا يمكن أن يعدّ هذا الاختراق أمرًا عابرًا؛ ذلك أنه يعكس فكْرَ حشودٍ من الأميركيين الذين تدنّت ثقتُهم في مؤسسات دولتهم، وفي نظامها الانتخابي، وفي أجهزتها القضائية المختصَّة. ولا سيَّما إذا تذكَّرنا موقف الحزب الجمهوري الذي يتحمَّل جزءًا غير قليل من المسؤولية، في تغطية موقف ترامب المشكِّك في نزاهة الانتخابات، والرافض للاعتراف بها، (والحامل مسؤولية سابقة في قبوله مرشّحًا للرئاسة عن الحزب، بتغليب حادٍّ لنزعاتٍ مصلحية وحزبية، على الأبعاد القيمية، لصالح مرشّح غير مستوفٍ لمؤهِّلات المنصب، وغير راسخ في منظومة الحزب، ولا حتى في السياسة الأميركية). وفي المقابل، لم تتوسَّع هذه الدائرة، ولم يمتد التواطؤ مع ترامب، من دون قيد، فقد بدأ الحزب الجمهوري، ممثَّلًا في زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، بنزع الغطاء عن ترامب، ثم تلاه موقف بنس الرافض ممالأة ترامب، بتعطيل التصديق على فوز بادين. ثم أخذت عزلة ترامب، حتى داخل حزبه، منحى أوسع وأوضح، بعد اقتحام الكونغرس.
وكان المثير في هذه التجربة التاريخية سرعة التدارك المؤسَّساتي، والرجوع بضربة مرتدّة على المتسبِّبين في تلك اللحظات الخارجة عن القانون، وعن القيم الأميركية التي ظهرت راسخةً ومصونة. والعمل الآن على ملاحقة المشاركين ومحاسبة ترامب ومقرَّبين منه؛ بوصفهم المحرّضين عليها، ودلّت تلك السرعة في تدارك الخطر على تماسُك النظام السياسي في واشنطن، وفاعلية المؤسسات الدستورية، ورسوخ احترامها.
ولذلك ليس من الإنصاف أخذها دليلًا على انهيار الديمقراطية الأميركية، ولا من العدل مقارنة أميركا، بعدها، بدول ديكتاتورية، تختصر نفسها في الزعيم الأوحد، الكامل الصلاحيات، فعليًّا. فقد حذّرت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، من أنّه إذا لم يُنحَّ ترامب، بموجب التعديل الخامس والعشرين، فإنّ الكونغرس مستعدّ لإطلاق آليَّةً لعزله، من خلال محاكمته برلمانيًّا.

حصل ترامب على أكثر من 70 مليون صوت، محقِّقًا ثاني أكبر حصيلة للأصوات الانتخابية

وبالتتبُّع التاريخي، يُعَدّ هذا الحدث ذُروةً من ذُرى الصعود اليميني الشَّعْبَوي، ونكوصًا إلى ما قبل المؤسَّسات، والحياة الدستورية، فالحدث ليس معزولًا، وإن حاول ترامب التنصُّل منه، بعد ردّات الفعل القوية والواسعة، والعابرة للخلافات الحزبية، فطوال فترة رئاسة ترامب، حتى منذ بدء حملته الانتخابية التي سبقت فوزه بالرئاسة، كانت الاتجاهات اليمينية والعُنصرية الشَّعْبوية تخلَّل خطاباته، ومواقفه، ذلك الخطاب الذي لم يخذله كثيرًا لدى الفئات الواسعة التي يستهدفها، والتي عبّر لها عن حبِّه وإعجابه، حتى بعد فعلتهم الشنيعة في الكونغرس، فعلى الرغم من التداعيات الصحية والطبية القاسية لوباء كوفيد 19، إلا أن الاحتشاد خلفه، وهو الذي اعتُبر لدى كثيرين مسؤولًا عن تلك التداعيات، بسبب تعاطيه المستخفِّ، والمرتبك، وغير الناجع، مع الوباء، لم ينقص كثيرًا؛ إذ حصل ترامب على أكثر من 70 مليون صوت، محقِّقًا ثاني أكبر حصيلة للأصوات الانتخابية، في التاريخ الأميركي، وهو ما يزيد عن 47% من الأصوات، على المستوى الوطني. حصل ذلك التأييد بعد كلِّ انتهاكاته ونرجسيَّته، وتناقضاته التي تعكس اختلاله؛ الأمر الذي يدلّ على عمق الولاء من قاعدته الشعبية، وضعف تأثُّرها بالأزمات التي يبدو أنها تراها سطحية. وهو ما يفتح الباب لحالة انقسام فكري، وتجاذب سياسي عميق، في السنوات والعقود المقبلة.