السيّدة التي شارفت على الستّين

28 ابريل 2025

(أوغيت كالان)

+ الخط -

برضاً تامٍّ، تأمّلت السيدة التي شارفت على الستّين نفسها في المرآة، كان شعرها مصبوغاً بلون خمري صاخب يخلو من أيّ شعرة بيضاء، نجحت على الدوام في إخفاء الشيب وملاحقته أوّلاً بأوّل، لأنها زبونة مواظبة في صالون التجميل القريب من منزلها، اعتاد "كوافيرها" المعتمد تصفيفه بطريقة ماكرة، تجعله يبدو أكثر كثافةً وحيويةً، كذلك فإن حُقنة "بوتكس" التي وزّعتها طبيبة التجميل في جبينها، وحول عينيها، جعلتهما تبدوان أكثر اتّساعاً وصفاءً، وساهمت حُقن النضارة التي دأبت على استخدامها في إخفاء التجاعيد والخطوط الدقيقة. لم تندم على نفخ شفتيها وتوريدهما، لأن الطبيبة اقنعتها بأن ذلك سيضفي على ملامحها جاذبيةً وشباباً، ولم تهمل الاعتناء بيديها، وخضعت لجلسات الليزر التي تمحو بقع العمر المتقدّم، وظلّت أظفارها الطويلة (المُعتنى بها جيّداً) مطليةً بالأحمر الفاقع.
وضعت كثيراً من مساحيق التجميل، ولم تنسَ تركيب الرموش الاصطناعية، ورسم حاجبيها بلون بنّي داكن. ارتدت فستاناً أبيض اللون زيّنته بكثير من الحُلي الملوّنة، سعيدةً بقوامها الممشوق، فخورةً بإنجازها ساعات التدريب الطويلة في المركز الرياضي، ما هيّأها لاستقبال الصيف رشيقةً خفيفةً منطلقةً، غير آبهةٍ بالتعليقات الخبيثة التي تسمعها بين حين وآخر عن تصابيها وعدم استسلامها لشرط الطبيعة، وإصرارها على البقاء شابّةً مقبلةً على الحياة، حتى لو أصبح أحفادها شباباً يفوقونها طولاً.
قرّرتْ في ذلك الصباح تقليد النساء المثقّفات اللواتي تصادفهن في مقاهي عمّان الغربية، منهمكات في الكتابة في أجهزة الكمبيوتر المحمولة أو غارقات في قراءة كتب سمينة، غافلات عمّا يجري حولهن. لطالما انتقدت إهمالهن الاعتناء بمظهرهن مكتفياتٍ بعقص خصلات شعورهن التي غزاها الشيب إلى الخلف، ما يُظهر وجوههن المتعبة الخالية من المساحيق. كثيراً ما حدّقت في أيديهن الجافّة بعروقها النافرة وأظفارها المقصوصة خاليةً من الطلاء على طريقة طالبات المدارس وهندامهن الرتيب، الذي يشبه أزياء عاملات المصانع الكادحات. كانت قد ابتاعت روايةً رائجةً لكاتب غزير الإنتاج، متواضع الموهبة، يُصدر روايةً كلّ شهر، ويظهر كثيراً في الشاشات، ما جعله معروفاً في نوادي القراءة النسائية التي باتت رائجة في عمّان.
اختارت طاولةً في زاوية المقهى الأنيق، بعد أن طلبت فنجان قهوة أميركية، وشرعت في القراءة مدّعية الانهماك، ورغم أن الرواية لم تشدّها، فقد حاولت التركيز أسوة بتلك القارئات المثقّفات. تنبّهت إلى شابّ يجلس قبالتها لعلّه في أواخر الثلاثينيّات أو بداية الأربعينيّات، كان يدخّن السجائر بشراهة، وهو يتابع شيئاً ما في هاتفه المحمول. حاولتْ ألا تلتفت نحوه، غير أن ذلك كان صعباً، لأنه يجلس في مرمى نظرها تماماً. ظلّ يحدّق فيها بنظرات غريبة، ما أثار ارتباكها، غير أن فرحةً غامضةً اكتسحت روحها على نحو مفاجئ. أخفضت نظرها وعادت إلى القراءة متجاهلةً نظرات الفتى التي أكّدت لها أنها ما زالت صبيةً فاتنةً قادرةً على لفت الأنظار، وإثارة إعجاب شابّ وسيم في مقتبل العمر. أحسّت نحوه بالامتنان لأنه حوّل صباحها إلى محض بهجة، وذلك أقصى ما طمحت إليه في تلك اللحظة، وهي الأرملة الوحيدة المتشبّثة بالحياة، رغم ما مرّ بها من أحزان.
نهض الشاب من مقعده وتوجّه نحوها مبتسماً. اضطربت وتلعثمت وفقدت توازنها، حتى كاد فنجان القهوة يفلت من يدها. اقترب من طاولتها من دون أن تغادر الابتسامة وجهه. قرّرت أن تصدّه بلطف ولباقة كي لا تجرح مشاعره، وأن توضح له أنها سيّدة رصينة لا تنجرف بسهولة. بادرها قائلاً: كيفك خالتو.. ألم تعرفيني؟ أنا حسام صديق ابنك، كنت أقضي وقتاً طويلاً في بيتكم ونحن في الابتدائي، كيف حاله؟ مرّ زمن طويل. تردّدت طويلاً قبل السلام عليكِ.. خشيت أن أكون مخطئاً.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.