السيسي قارئاً وائل حلاق

السيسي قارئاً وائل حلاق

21 ديسمبر 2021
+ الخط -

يتصوّر أغلب المنشغلين بالشأن العام أنّ الطغاة والمستبدّين في بلادنا بلا رؤية، بلا أخلاق، بلا ضمير، وبلا دين، وهو تصوّر لا يخلو من صحة، في بعض الحالات، إلّا أنّه خاطئ، وأحياناً مضلّل، في حالاتٍ أخرى. كان جمال عبد الناصر، في بداية تجربته، حريصاً أن تكون ثورة يوليو بيضاء، بلا دماء، رفض إعدام الملك فاروق، ورفض الاغتيالات السياسية، بعدما جرّبها، مرة، مع حسين سرّي عامر، وفشل، وارتاح نفسياً لفشله. ناهيك عن انحيازه، الحقيقي، للديمقراطية، فلسفةً للحكم، ودفاعه عنها في اجتماعات مجلس قيادة الثورة، بالمخالفة لكلّ رفاقه الذين انحازوا للديكتاتورية، بوصفها "مصلحة البلد"، باستثناء خالد محيي الدين، وحماسه، أي عبد الناصر، قبل السلطة والحكم، لكتابات خالد محمد خالد، عن الإسلام والديمقراطية، كما أشار الأخير، في مذكراته. يروي موسى صبري، في كتابه "وثائق 15 مايو"، وقائع ليلة إعدام عبد القادر عودة ورفاقه، يقول: "يوم تنفيذ حكم الإعدام على عدد من المتهمين في قضية محاولة اغتيال جمال عبد الناصر أثناء إلقائه خطابه في ميدان المنشية بالإسكندرية... كان عبد الناصر يعاني .. واستدعى الشيخ الباقوري من منزله، ودخل عليه غرفة نومه للمرة الأولى والأخيرة في حياته .. وأمضى معه وقتاً طويلاً، يهدئ من نفسه .. كان عبد الناصر لا يتصوّر تنفيذ الإعدام حتى في من تآمروا لاغتياله. وكان يردّد: حتى لو كانوا يريدون قتلي فإنّي غير مستريح لإعدام أحد".
ساعد الباقوري عبد الناصر في اجتياز العتبة الأولى، ومن بعدها توالت العتبات .. الإعدامات .. الاعتقالات .. التعذيب .. التشريد .. وغيرها من السياسات والإجراءات التي وجدت "ألف باقوري" كي يبرّرها ويمرّرها. ونام عبد الناصر ملء جفونه. وكذلك ينام طغاة آخرون، عن جرائم يومية، يرتكبونها في القطاعات كافة، وفق تأويلاتٍ شرعية، وتخريجاتٍ منطقية، وتجارب سياسية وتنموية جمعت بين الخطايا والإنجازات، فسوّغت الثانية الأولى، وكفى الله المستبدّين شر الحريات.
يتحدّث عبد الفتاح السيسي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بوصفها أفكاراً تخصّ أصحابها وسياقاتهم، يتحدّث إلينا .. إلى الإعلام الغربي (أكثر من مرة) إلى ماكرون .. إلى المزايدين على سياساته القمعية .. إلى المطالبين بوقف ذلك كله، ويطالب الجميع باحترام الخصوصيات الثقافية، واختلاف الأفكار والمفاهيم والتحدّيات والمرجعيات. يجد السيسي من يبرّر إجراءاته القمعية، ابتداء من قتل المتظاهرين، فالقتل أنفى للقتل (كما أشار الشيخ علي جمعة) إلى تحميل عبء قروض البنك الدولي إلى أكثر الطبقات فقراً، من دون غيرهم من أغنياء طبقة الحكم. يحتاج السيسي، وغيره، في سياقاتٍ أخرى، لتبريراتٍ أكثر عمقاً، يجدها من يفكّرون له (وبه)، في كتاباتٍ، ربما لم يقصد أصحابها دعم المستبدّين، لكنّهم فعلوا حين تعاملوا مع الأفكار الكبرى، بعنادٍ وطفولية، من دون الالتفات إلى امتداداتها السياسية. أبرز هؤلاء، في تقديري، هم نقّاد الديمقراطية والحريات والدولة الحديثة، في سياقاتٍ استبدادية. يتعامل الناقد هنا بوصفه يمارس حقّه في نقد فكرةٍ بشرية، ليست نهائية، وهي كذلك بالفعل، إلّا أنّ هذا النقد، المشروع والمطلوب، يتحرّك في الغرب لدعم ديمقراطياتٍ راسخةٍ وتصحيح أخطائها من داخلها، فيما تتحرّك خطابات نقد الديمقراطية في العالم العربي في سياقات دعم الاستبداد، بالضرورة. وهو ما تجده في خطاب وائل حلاق، الذي بدا أكثر وضوحاً وتكثيفاً، في حواره الممتع (والمزعج) في برنامج "المقابلة" في قناة الجزيرة، والذي بدأ بأنّ الدولة الحديثة، كلها، لا تناسبنا، وانتهى إلى أنّ المواطنة لا تتفق مع الإسلام.
ليس المشكل هنا في تقديم مبرّرات "أنيقة" لمزيد من الاستبداد، تحت لافتات الخصوصية، فحسب، إنّما في غياب أي بديلٍ يطرحه حلاق أو غيره، عن هذه الدولة "الشيطان"، وهو ما يتقاطع مع خطابات الحركة الإسلامية، منذ سبعينيات القرن الماضي، والتي قدّمت خدماتٍ أكثر من جليلة لأنظمة الاستبداد العربي، حين بشّرت بدولة (بالأحرى دول) متخيّلة، لا وجود لها، في التاريخ، ولا إمكانية لتحققها في الواقع والمستقبل، ما أمّم جهود ملايين الشباب، لصالح "عَدَمٍ مقدّس" وجعل من دول الاستبداد العربي وأنظمته الواقع الوحيد، الممكن والمتاح "وإلّا".

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان