السياسي والديني في السياسة الإسرائيلية
تعيش منطقة الشرق الأوسط فترةً مفصليةً في تاريخها منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، التي كانت بمثابة زلزال استراتيجي كبير ما زالت توابعه تتوالى في المنطقة، ومثّلت صدمةً بالغةً للعقيدة الأمنية الإسرائيلية القائمة على الردع، بعدما وجّهت لطمةً قويةً للغطرسة الإسرائيلية، فحطّمت أوهام القوة الخارقة للمنظومة الأمنية لإسرائيل وقدرتها الفائقة على الحسم السريع. وبعدما استوعبت إسرائيل صدمتها، شرعت الطغمة الحاكمة فيها، بشقّيها السياسي والعسكري، في محاولة توظيف الحدث الكبير لصالحها، بإعادة رسم خريطة المنطقة وتغيير المعادلات الناظمة للتوازنات الاستراتيجية فيها، لضمان عدم تكرار ما حدث في "7 أكتوبر"، فكانت البداية بإطلاق آلة الحرب الإسرائيلية بأقصى طاقتها العدوانية تجاه قطاع غزّة، الذي يتعرّض منذ نحو عامَين كاملَين لحرب همجية بالغة القسوة، وصلت إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان.
لم تكتفِ إسرائيل بجرائمها والمقتلة اليومية بحقّ أهل غزّة، قصفاً وتدميراً وتجويعاً، وإنما وسّعت نطاق عدوانها ليشمل أربع دول عربية انتهكتْ سيادتها تباعاً خلال الأشهر الماضية، فضلاً عن جولة المواجهة العسكرية القصيرة المباشرة مع إيران، وصولاً إلى إقدامها أخيراً على عملية عدوانية تجاه قطر، باستهداف وفد المفاوضات الذي يمثّل حركة حماس خلال اجتماع لمناقشة ورقة مُقدّمة من الرئيس الأميركي ترامب لإنهاء الحرب في غزّة، في سابقة خطيرة في تاريخ العلاقات الدولية حين يستهدف طرف في صراعٍ الوفدَ المفاوض للطرف الآخر، وفي أرض وسيط بين الطرفَين. أمّا الأدهى، فجاء في كلمة المندوب الإسرائيلي في جلسة مجلس الأمن: "على قطر أن تختار الآن، إمّا أن تدين حماس وتطردها أو ستقوم إسرائيل بذلك"، في تهديد صريح شديد الوقاحة تجاوز كل الأعراف الدبلوماسية في محفل دولي. بعدها بيومين خرج وزير الطاقة الإسرائيلي، وعضو المجلس الأمني المُصغَّر (الكابينت)، إيلي كوهين، بتهديد خطير، فتوعّد بمحاسبة كل من تورّط أو شارك بأيّ صورة في "طوفان الأقصى"، انطلاقاً ممّا وصفه بـ"عقيدة ميونخ"، وشدّد على أن كل من له صلة بحركة حماس لا يمكنه أن ينام مطمئناً في أي مكان في العالم: "من لم نصل إليه الآن سنصل إليه لاحقاً"، وهو تهديد إسرائيلي جديد بملاحقة أعضاء "حماس"، حتى لو كانوا في ضيافة دولٍ محايدةٍ.
من المهم التوقّف عند تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وحديثه المتكرّر خلال الأشهر الماضية عن تغيير الشرق الأوسط، الذي امتزج فيه ما هو سياسي بما هو ديني بصورة لافتة، ففي كلمته أمام الكنيست في نهاية مايو/ أيار الماضي، قال إن حكومته تسعى إلى تغيير وجه الشرق الأوسط، وهذا ما تفعله تماماً، وأوضح أنه منذ قيام إسرائيل لم تتحقّق إنجازات كالتي تحقّقت في عدة جبهات في الإقليم، ورأى أن سياسته عزّزت دور إسرائيل بصفتها قوةً عُظمى إقليمية.
تارةً يتحدّث نتنياهو عن "نبوءة إشعياء" وعن "أبناء النور وأبناء الظلام"، وتارةً أخرى يتحدّث عن "نبوءة حزقيال" ومواجهات جرت في التاريخ القديم بين اليهود و"العماليق"
في أغسطس/ آب الماضي، أدلى نتنياهو بتصريح شديد الأهمية والخطورة في آنٍ معاً، فتحدّث عن "إسرائيل الكبرى" في حوار أجراه معه المذيع شارون جال، المعروف بتوجّهاته اليمينية المُتطرّفة، وبثّته قناة آي 24 الإسرائيلية. وبعدما أهدى نتنياهو المذيع قلادةً حملت خريطةً مُوسّعةً لإسرائيل، أو ما يُعرف في الأساطير الصهيونية بـ"أرض الميعاد"، التي تشمل الأراضي الفلسطينية وأجزاءً من الأردن وسورية ولبنان ومصر، سأله المذيع عن مدى ارتباطه بهذه الخريطة، فأجابه نتنياهو بأنه مرتبط بشدّة برؤية إسرائيل الكبرى، وقال إنه يشعر بأنه في مُهمة تاريخية وروحية لتحقيق أحلام أجيال مُتعاقبة من الشعب اليهودي. بعد ذلك بأيام، وفي تصريحات لبودكاست أميركي، أعاد نتنياهو التأكيد أن حكومته تغيّر وجه الشرق الأوسط، موضّحاً أنه لا يعتقد أن الحرب استغرقت وقتاً أطول ممّا يجب، زاعماً أن إسرائيل تقترب من المرحلة الأخيرة للحرب، وهي القضاء النهائي على حركة حماس. وفي اللقاء نفسه كشف نتنياهو أن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن طلب منه عدم دخول رفح، فقال له نتنياهو: "نخوض معركةً متواصلةً منذ 3500 عام، وسنفعل ما يتوجّب علينا فعله".
ما يستحقّ التوقّف عنده في تلك التصريحات كلّها أن تغيير الشرق الأوسط الذي يقصده نتنياهو وأتباعه من أعضاء حكومة "القبّعات" في إسرائيل لم يعد يقتصر على قتل الفلسطينيين أو تهجيرهم وتوسيع رقعة الاستيطان، أو حتى سحق القوى الإقليمية المناوئة للهيمنة الإسرائيلية، سواء كانت من الفاعلين الرسميين أو من المنظمات غير الرسمية، وإنما امتدّت مظلة مفهوم تغيير الشرق الأوسط، وفقاً للنهج الإسرائيلي الجديد النابع من فائض القوة الذي تملكه إسرائيل، لتشمل تغيير "قواعد الاشتباك" القديمة، عندما كانت آلة الحرب والعدوان الإسرائيلية تقتصر على أطراف أو جبهات بعينها تعتبرها إسرائيل مصدر التهديد والخطر على أمنها، لكن في النهج الجديد مدّت الرؤية الإسرائيلية مظلّتها العدائية، ووسّعت المدى الذي تصبّ فيه جام غضبها ليشمل دولاً تُوصَف سياستها بالاعتدال، وتربطها بإسرائيل علاقات تراوح بين الصداقة والحياد، وتلعب دور الوسيط برعاية أميركية، فضلاً عن ارتباطها بعلاقة تحالف مع الولايات المتحدة.
يدعم نتنياهو خطابه بغطاء ديني من نبوءات توراتية ويخلطها بأساطير صهيونية لتبرير القتل الممنهج
من جهة أخرى، لا يمكن غضّ الطرف عن الحضور الطاغي للعامل الديني في تصريحات نتنياهو، الذي يصرّ على تدعيم خطابه بغطاء ديني يستحضر نبوءات توراتية، ومشاهد تاريخية من التاريخ اليهودي القديم، ويخلطها بأساطير صهيونية من أجل تسويغ وشرعنة عمليات القتل والتدمير المُمنهَج الذي تمارسه إسرائيل في الحاضر. فتارةً يتحدّث نتنياهو عن "نبوءة إشعياء" وعن "أبناء النور وأبناء الظلام"، وتارةً أخرى يتحدّث عن "نبوءة حزقيال" ومواجهات جرت في التاريخ القديم بين اليهود و"العماليق"، وتارةً ثالثةً يقول بنصّ العبارة: "كما هو مكتوب في التوراة سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم"... تلك التصريحات الخطيرة كلّها لم تكن في غُرف مُغلَقة أمام آحاد، وإنما جاءت في تصريحات علنية مُتلفزَة، سجّلتها عدسات الكاميرات بالصوت والصورة، ونقلتها إلى ملايين المشاهدين حول العالم.
رغم ذلك التطرّف المجاهر به في الخطاب الإسرائيلي العدواني، الذي يمتزج فيه الديني بالسياسي، يصرّ "التنويريون" على التركيز الشديد في ما يصفونه بـ"أصولية" حركة حماس وتطرّفها العَقَدي، في حين تصاب آذانهم بالصمم، وأعينهم بالعمى، فلا يرون التطرّف الصهيوني الفاقع الذي يفيض به خطاب الساسة الإسرائيليين، ويؤسّس مرحلةً جديدةً من الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على المنطقة، وهو أمر لن يمرّ مرور الكرام، وسيكون له ما بعده.