السياسة والفن في سورية

السياسة والفن في سورية

03 يناير 2021

حشد من السوريين في جنازة المخرج حاتم علي في دمشق (1/1/2021/فرانس برس)

+ الخط -

الأمد الطويل الذي استغرقته الحرب في سورية أجبر الأطراف على التمترس وراء استحكاماتها الخاصة، فأبرزت أسلحتها الأيديولوجية والعسكرية، والفنية أيضا.. سقط النظام أخلاقيا منذ فترة طويلة، منذ اللحظة الأولى، حين استسهل إطلاق النار على المدنيين، وسجّل خلال العقد الأخير أسوأ أخلاقٍ حربيةٍ عرفها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، حين استخدم الأسلحة الكيميائية من دون تردد وعلى نطاق واسع، ولكن الحماية التي تمتّع بها أبقته، حتى اللحظة، بمنأى عن ملاحقة قضائية حقيقية أو محاسبة جدّية، وبقيت بين يديه أدواته التي استخدمها في القبض على السلطة وصناعة الحلفاء المدافعين عنه، وهو يتحكّم الآن في نصف الشعب السوري المقيم في مناطقه ولم يجد سبيلا للخروج.. يقف السوريون هناك في طوابير الخبز والغاز ساعاتٍ طويلة في انتظار معجزةٍ ما، وبعضهم ينصاع للانضمام إلى الجيش، وللبقاء على مقربةٍ من هؤلاء، يستخدم النظام مادةً نظرية يسوقها عبر إعلامه، وقد تكون إحدى أسلحته المهمة الدراما والمسلسلات التلفزيونية، وبنيتها التحتية من ممثلين وكتاب ومخرجين.

منذ بداية الانتفاضة الشعبية في سورية، تنبّه النظام إلى الدراما، وكانت قد وصلت مع نهاية العام 2010 إلى مكانةٍ عربية رفيعة، ولاقى المسلسل السوري رواجا جعل نجومه شخصياتٍ عربيةً معروفة ومطلوبة، لذلك كان النظام يستدعي ما تيسّر منهم للقاء بشار الأسد شخصيا، وعَقد لقاءً معهم في مايو/ أيار 2011، أي بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة، وكان الموقف الشعبي من حضور الفنانين للقاء لا يقبل التقسيم على اثنين، والمسافة شاسعةٌ بين الشعار الذي طرحته الشوارع الغاضبة والرد الذي تبناه النظام وحافظ عليه، فارتسم خط أخلاقي من الممكن لمخترقه أن ينتقل من حال إلى حال مختلفة. صرّح ممثلون، من الصف الأول، وجاهروا بمناصرة النظام بقوة، وبالوقوف وراءه، ودعم كل أساليبه، وظلوا "مخلصين" له. لم يمر هذا الموقف بشكل مجاني، فتضرّرت الدراما السورية بمجملها وبدأ الكتّاب يجدون لأنفسهم ورشاتٍ كتابيةً جماعية يختفون فيها، فيما صار الممثلون أيضا يندسّون في المسلسلات المشتركة التي عرفت بـ "بان أراب"، وفقدت الدراما السورية سمتها وعلامتها المميزة، ولعبت الحرب ومواقف الفنانين منها دورا أساسيا في هذا الواقع.

في أوساط الجمهور السوري، وهو صاحب الرأي الأهم في الدراما ونجومها، لم تعد الموهبة والحضور والخبرة أساساتٍ وحيدة لتقييم الفنان، فالثورة أعطت وسائل قياس جديدة، وهي مدى توافق الفنان مع الثورة ومدى قوة موقفه من النظام. وبالانقسام العمودي في الشارع السوري، أصبح مستوى أداء الفنان ينال علامة الصفر من جانب، والعلامة الكاملة من الجانب الآخر. وبهذا التقسيم، فقد ممثلو الصف الأول بعضا من نجوميتهم وتأثيرهم، وتضاءل التقدير لما قدموه للدراما بسبب موقفهم المنافي لجوهر المهنة التي يعملون فيها.

استمرّ الشرخ عميقا وطويلا، إلى أن جاء نعي المخرج حاتم علي قبل أيام، فشاهدنا إجماعا شعبيا جارفا بين السوريين، على اختلاف مواقفهم، وبدا الحزن والصدمة حقيقةً عاشها الجميع بموت هذا المخرج، وتسابقت المواقع لوضع نبذة عن تاريخه وفنه وأعماله.. ما لبثت الموجة بعد يومين أن هدأت، ليبدأ طرح الأسئلة التقليدية عن مكان حاتم علي وأين يمكن وضعه! ذهب النعش إلى دمشق في مقصورة الأمتعة من دون أن تكلف نقابة الفنانين السوريين نفسها لتُصدر نعياً قصيراً لهذا المخرج المتميز، فقد تذكّرت أنها فصلته من عضويتها منذ سنوات. وبعد أن فصلته أخرج حاتم علي "العراب"، في جزءين، ليشير بوضوح إلى مكان الفساد ومصدره في سورية. ولهذا، يمكن بالطبع توقع سبب امتناع النقابة السورية عن نعيه. وعلى الرغم من أننا ما زلنا نتابع محاولات الفنانين السوريين المستمرّة للبقاء على مسافة أقرب إلى النظام في سبيل كسب العيش، لكنهم بالتأكيد يخسرون معركة حاتم علي، ويفقدون نقاطاً أخلاقية في كل مناسبة.