السوريون العلويون وموسم قطاف الدم

22 مارس 2025

آثار دمار بعد اشتباكات في جبلة غربي سورية (11/3/2025 الأناضول)

+ الخط -

كتبتُ في "العربي الجديد"، منذ سنتين، عدة مقالات تناولت اختطاف نظام الأسد الطائفة العلوية في سورية، مستثمراً مظلوميّتها التاريخية لصهرها في دورة عنف يُعاد تدويرها متى دعت الحاجة، بعدما جعل أفرادها يقفون في حيّزٍ من الغموض الهُويَّاتي وعدم اليقين الوطني، مختصراً كينونتهم في مليشيات متطرّفة، وأكباش فداء في جبهات القتال. وبناء عليه، كتبتُ إنه لا بدّ أن يأتي يومٌ يدفع فيه العلويون فاتورة طغيان الأسد، فاستدامة سيطرته على البلاد أصبحت مستحيلةً، وهم الدرع الحامي لعرشه المقدّس، فكيف لا يتلقّى عنه رصاص اللوم والانتقاد وسياط الغضب. على التوازي، لم تكن العلاقة بين نظام الأسد والحاضنة الموالية متجانسةً أبداً، وهذا تأتّى بعد مراجعةٍ نقديةٍ صارمةٍ للذاكرة الجمعية العلوية في ظلّ عدم القدرة على التكيّف المرن مع إكراهات السلطة وإجرامها، فقد انتقدت ثلّة من المثقّفين والناشطين السوريين العلويين علناً استبدادها وفسادها، فأصدرت رابطة تنسيقيّات الساحل السوري، ورابطة الإخاء الوطني والعيش الواحد، عام 2011، بياناً بشأن ما وصفتاه زوابع إعلامية مثارة عن تأييد الطائفة العلوية ممارسات الأسد ضدّ المتظاهرين، كما اضطر بعض زعمائها إلى إصدار ما سمّي "إعلان وثيقة إصلاح هُويَّاتي" عام 2016، نصّ على عدم تحميل الطائفة وِزر الجرائم التي ارتكبها النظام، تلاها في عام 2023 ظهور "حركة الضبّاط العلويين الأحرار"، التي أعلنت (من قلب ريف القرداحة) دعمها حركة التحرّر الوطني وانضمامها إلى المجلس العسكري السوري، ما أسفر آنذاك عن حرائق هائلة في منطقة التمرّد لن يخفى على أحد بالطبع منفذها، ثمّ ظهور حركة "10 آب" في الساحل السوري، معبّرة عن فقدان الأمل بالنظام الحاكم، ودعت إلى الحفاظ على الوطن بعيداً عن أيّ تدخل خارجي.

هذه التحرّكات الأشبه بمساراتٍ ثورية في الظلّ، لأنها من دون زعامة موحّدة، ولم تشفع للطائفة اليوم، حصلت بعد إحباطات عميقة بين العلويين الذين باتت لديهم شكوك بشأن الوجهة التي يقودهم بشّار الأسد إليها. كتبتُ إنّ ثمّة موسم حصادٍ دموي قادم للصمت العلوي، بعدما نجح النظام في توريطهم بالمقتلة السورية للتمترس بهم، وهو استحقاق سوري لا بدّ منه في بلد ابتُلي بلعنةِ الهُويَّة ما قبل الدولتية. وها هو المُتوقَّع يحدُث أخيراً. ولكن لنطرح السؤال الملحّ: لماذا كان الثمن باهظاً إلى هذه الدرجة وقد انتصرت الثورة، وسقط نظام الأسد البائد؟

رهان السوريين العلويين الوحيد على السلطة الجديدة ومدى نجاحها في تخفيف الحمولة الأيديولوجية عن خطابها الديني المتشدّد

شكّل سقوط نظام الأسد وتصدّر الإسلاميين المشهد السياسي في سورية منعطفاً مفصلياً، لتُحصَد أخيراً تركة الأزمات الثقيلة التي أودعها الأسد (الأب)، مؤسّس مملكة الرعب، وابنه المخلوع، ورغم عدم امتلاك القيادة الجديدة رؤيةً سياسيةً نهائيةً للمرحلة الانتقالية، لكن المهم (وقبل أيّ شيء) تفاديها اللجوء إلى الوسائل المتّبعة طوال خمسة عقود وسط اتساع رقعة الخوف "الأقلّوي"، الذي يُعبّر عن حالة الهلع النفسي الارتدادي بعد مجازر الساحل السوري، وهو في الأصل ناتج من سوء هضم المظلوميات التاريخية والوقوف على مسبّباتها الحقيقية. في السياق، وصف الجغرافي الفرنسي جاك ويولرسه العلويين عام 1940 بأنهم منسيون من التاريخ، وللمفارقة هم اليوم في قلب الحدث يتعرّضون لعقابٍ جماعي مهول. مجازر بالجملة أشبه بطعنةٍ عميقة في جرح لم يندمل بعد. ولعلّ توقّع حدوث هذه الانتهاكات، إن آجلاً أو عاجلاً، يبرّر تطرّف الطائفة العلوية سابقاً واستكانتها لحكم الأسد، الذي عزف بحرفيةٍ مذهلة على نغمةِ اندلاع ويلاتٍ مذهبية، فسجنَ العلويين في "غيتو" رعبٍ كامل الأوصاف، ربّما لن تخرج منه قريباً، رغم أنّ رئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، قد صرّح: "ستبقى الدولة ضامنةً للسلم الأهلي ولن تسمح بالمساس به على الإطلاق". لكن الجرح فُتح في منطقة الساحل السوري حقّاً، ولا بدّ من تضميده، ما يطرح مجموعة متشابكة من أسئلة شائكة لطالما جرى تأجيلها، وينبغي الإجابة عنها بشفافية تامّة، وهو أمر بالغ الأهمية مقدّمةً لإعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري على أسس الدولة الحديثة وبداية تحوّل جديد في تفاعل الديني والسياسي معاً.

يتساءل الخبير في الشؤون السورية في مؤسّسة الدفاع عن الديمقراطيات (مقرّها واشنطن)، ديفيد أديسنيك، إذا ما كانت هيئة تحرير الشام تعتبر هُويَّة الأسد بوصفه علوياً سبباً لوحشيته الشديدة؟ وإذا كان الجواب "لا"، فلا سبب يُذكر لإلقاء اللوم على العلويين والانتقام. بالتالي، من الضرورة بمكان مسارعة النظام الجديد إلى معالجة جرح الساحل السوري بجدّية قصوى، لتحديد مدى قدرته على استيعاب مقتضيات المرحلة المأزومة وسط إشكالات شتّى ذاتية وموضوعية، والتأكيد على أنّه نظام ضدّي لسياسة نظام الأسد سيتفادى بخفّةٍ سياسيةٍ نتائج الكمين الذي نصبته "فلوله"، فمذابح الساحل تعدّ أشدّ موجات العنف دمويةً منذ عقود، كما تعتبر تحدّياً حقيقياً لحكومة دمشق في سعيها إلى الحصول على الشرعية الدولية ورفع العقوبات الأميركية والغربية، فيما يرى مراقبون أنّ "المذبحة العلوية" تلعب لصالح إسرائيل، وتطرح وضع الدروز والأكراد تحت حمايتها المطلقة، تنفيذاً لخطّةٍ شيطانيةٍ مضمرةٍ تطاول المنطقة العربية بأسرها.

حوصر العلويون (بعد 2011) بين مطرقة الجهاديين، الذين يعتبرونهم مرتدّين، وسندان نظام فاشي

فعلياً، إذا جاز لنا التأمّل، ولو قليلاً، في كمّية الدم السوري الذي أُريق لقاء انتفاضة الشعب السوري ضدّ الأسد، فسنتأكّد حكماً أنّ سقوط الأخير لن يمرّ من دون ثمن باهظ يدفعه الفقراء من مواليه، ما قد يؤدّي إلى حربٍ أهليةٍ مستدامة، وتفسّخ وفوضى، إنْ لم يُتدارك الأمر. فالمجازر تُوجب قراءة عميقةً ومتأنّيةً لمعالجة المخاوف التي باتت تطرح نفسها بإلحاح شديد، خاصّة أن العلويين (بعد عام 2011) حوصروا بين مطرقة الجهاديين، الذين يعتبرونهم مرتدّين، وسندان نظام فاشي منّاهم بحربٍ سهلة الفوز، بينما تعاني فقراً وطنياً مزمناً. والنتيجة: فُرّغت القرى العلوية من الشبّان، وعندما اتّشحت نساؤها بالسواد وضعن حواجز في مداخل قراهنّ الجبلية لمنع الجيش من أخذ أبنائهنّ بالقوة، وكان كلّما وجد نظام الأسد صعوبةً في تعويض القتلى من العلويين لجأ إلى الترهيب والإكراه والاعتقال. واليوم تستمرّ الطائفة العلوية في دفع فاتورة نظام ديكتاتوري لعب على وتر تسييس الهُويَّات الطائفية، تستعيد ذكريات الاضطهاد التاريخي المرير لتطفو المخاوف الوجودية إلى السطح مترافقةً مع أفق سياسي لم تتضح بعد معالمه، هي التي اعتبرت سقوط بشّار الأسد حلماً وردياً تحقّق بمعجزة إلهية، وأملت ألا يتحوّل كابوساً جديداً.

في ضوء ما سبق، وإذا ما تناولنا تاريخياً حالات الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة، سنجد أنّ الخروج من متاهة الاستبداد مرَّ دائماً بطرقٍ عُبّدت بجثث الأبرياء. وفي سورية اليوم تنفجر التناقضات استجابةً لعمليات التحوّل العميقة، بينما يقبع العلويون في حالة تخبّط مريعة، يحاولون إنشاء مجالس فاعلة نظراً لغياب القيادة، تصدر بيانات متشرذمة تزيد الطين بِلَّةً، ما يجعل رهانهم الوحيد على السلطة الجديدة ومدى نجاحها في تخفيف الحمولة الأيديولوجية عن خطابها الديني المتشدّد، وتحويل الطائفة الجريحة من مجرّد جيوب علوية مهمّشة في إقليم ملتهب إلى مشاركين فاعلين في بناء الدولة السورية. عيونُ العلويين تتجه إلى الرئيس الشرع بانتظار محاسبة مرتكبِي مجازر الساحل كي لا يُختزَل مصيرهم بتلك الأم السورية (أم أيمن) وهي تجلس بجانب جثث عائلتها، شاردةً في قهرها وصمتها وعجزها، لا تلوي على شيء.