السودان... انتهاكات متزايدة وبلد يتفكّك
"أسوأ أزمة إنسانية في الذاكرة الحديثة". ... هكذا تصف الأمم المتحدة حرب السودان. الحرب التي أودت بحياة عشرات الآلاف، وتسبّبت في نزوح حوالي 12 مليون سوداني، بحسب جديد الإحصاءات الدولية. تتّهم التقارير الدولية الطرفين المتحاربين باستخدام الجوع سلاحاً في الحرب. يشكو عمال الإغاثة من العقبات والقيود البيروقراطية التي تضعها السلطة العسكرية أمامهم، لعرقلة دخول المساعدات. وتحتجز قوات الدعم السريع قوافل المعونات وتختطف عمالها. كما وثقت تقارير عديدة حالات العنف الجنسي الممنهج ضد النساء. رصدت بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان، في تقريرها الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) تصاعد العنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب والاستغلال الجنسي والاختطاف لأغراض جنسية، فضلاً عن مزاعم الزواج القسري والاتجار بالبشر.
بحسب التقرير، أغلب حالات العنف الجنسي ارتكبها جنود "الدعم السريع"، في نهج مقصود لترويع المدنيين ومعاقبتهم. رفض الجيش السوداني التقرير، وهاجمه بعنف، واتهمه بالتواطؤ مع "الدعم السريع"، رغم الادانات الواضحة. وعدّه "الدعم السريع" أيضاً جزءاً من مؤامرة دولية ضده تدعم الجيش السوداني. لا يهتم الطرفان إلا بالتقارير الدولية التي تعضد موقف كلٍّ منهما. أما ما يعانيه المواطنون فلا يعني أحداً.
أبدت جهات دولية عديدة قلقها من أوضاع النساء في الحرب السودانية. ومع أخبار عن لجوء عدة نساء إلى الانتحار في ولاية الجزيرة بوسط السودان، هرباً من الاعتداءات الجنسية، يبدو واضحاً أن القلق الدولي لا يكفي لتوفير الأمان للسودانيات. تتحدّث تقارير الأمم المتحدة للمرأة عن زيادة بنسبة 100% منذ بداية الحرب في عدد المحتاجات للحماية من العنف القائم على النوع، حيث طلبت حوالي سبعة ملايين امرأة الحماية. لكن كل الأطراف ذات الصلة بالحرب لا يهمّها الأثر المدمر للقتال على المواطنين المدنيين. يبدو تركيز الجميع منصبّاً على العملية السياسية، وعلى مكاسب الحرب ومكاسب ما بعدها.
تحاول السلطة العسكرية تطبيع واقع الحرب، فتعقد الفعاليات الحكومية ويشارك رئيسها في المؤتمرات الدولية، كأنما هو يوم عمل عادي. بينما ينكّل "الدعم السريع" بالسودانيين والسودانيات أكثر من عام ونصف العام. يتحدّث الجيش عن عدم إمكانية التفاوض مع خصمه، ويعقد محاكمات للمتعاونين معه ويحكم عليهم بالإعدام. بينما يجنّد المنشقين من "الدعم السريع" للقتال معه، ويرفعهم الى مصاف الوطنيين الأبطال. أما "الدعم السريع" فيبدو كعربة بلا قائد. ومع غياب محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعدما أعلن التعبئة العامة في خطابٍ غاضب من الهزائم التي مني بها أخيراً، ينطلق جنود "الدعم السريع" في حملة إجرامية تهجّر المواطنين وتستبيحهم في ولاية الجزيرة، فيما يبدو أنها الأيام الأخيرة لسيطرة المليشيا على الولاية الغنية.
مع غزارة رصد الواقع المزري الذي يعيشه ملايين السودانيين، لا تبدو الأزمة الإنسانية مؤثرة على متخذي القرار، سواء من حملة السلاح أو من المجتمع الدولي. وسقطت قضية حماية المدنيين في فخ الاستقطاب الدولي، وتحوّلت إلى نزاع بين الغرب وروسيا يدفع فيه السودانيون ثمن الضغط الغربي في أوكرانيا. فكأنما ذنب أهل السودان الذي لا يغتفر وجودهم على ضفة البحر الأحمر وفوق أرض تخبّئ كثيراً من الذهب. فيشغل موقع البلاد وذهبها أصحاب القرار عمّا يعانيه المواطنون. ولا يعود للسودانيين قيمة إلا أنهم أرقام في إحصاءات تستخدم لتعزيز الموقف السياسي.
بحسب تقرير بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان، فإن الإناث من عمر ثماني سنوات حتى 75 عاماً تعرّضن للاعتداءات الجنسية. كما تزايد خطاب الكراهية، ورصدت جرائم لا يمكن تصنيفها إلا جرائم عرقية، حيث صفّى "الدعم السريع" مئات السودانيين من الأصول الأفريقية.
ما لم ترصده التقارير الدولية أن البلد المضطرب منذ العام 1955 ربما قد وصل إلى نقطة النهاية. فلم تعد مكوّناته الاجتماعية يقبل بعضها بعضاً إلا بقدر التحالفات الضرورية في هذه الحرب. لكن التعايش السلمي بين الأعراق المتنوعة ربما يكون صعباً بما ستورثه الحرب لبلدٍ منكوبٍ بالاقتتال الأهلي منذ ما قبل استقلاله. فما أصاب البلاد الكبيرة في 2011 عند انفصال جنوب السودان لم يعد الزلزال الأخير، فمن الواضح أن الحرب تحمل معها مزيداً من التفكّك.