السوداني في مواجهة "الأخوة الأعداء"
لم يخرج رئيس حكومة العراق، محمد شيّاع السوداني، بعد عن طاعة "الولي الفقيه"، كما لم يتخل عن عباءة "الإطار التنسيقي"، وهو فقط مدّ رجليه قليلاً خارج الغطاء الذي أعطته له الأحزاب الحاكمة، ومنحته بركتها كي يصبح رئيساً للحكومة، واشترطت أن تكون حكومته "حكومة خدمات"، بمعنى أن لا تهشّ ولا تنشّ، ووضعت أمامه خطوطاً حُمراً لا يمكن له أن يتخطّاها، أن لا يتعرّض لعلاقة المصير الواحد مع دولة "الولي الفقيه"، وأن لا ينال من سلطة "المليشيات" المتوغلة في الفضاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولا يسحب السلاح منها، والأهم أن لا يتطلع إلى أكثر من الولاية الواحدة، وأن لا يؤهل نفسه من أجل أن يدخل الانتخابات البرلمانية المقرّر إجراؤها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل منافساً لهم، وقد حكموا البلاد 22 عاماً، فما أورثوا مواطنيها غير الذلّ والنكد ومرارة الحياة.
راهن السوداني، من ناحيته، على أنه أول رئيس حكومة بعد الاحتلال لم يسبق له أن "جاهد" مع "معارضي الخارج" الذين جاءت بهم الولايات المتحدة ونصّبتهم حكّاماً على عرش العراق، إذ عاش في الداخل كل سني عمره، ولم يحصل على جنسية أجنبية، ووضع في حسابه أن هذا كافٍ لتحقيق طموحاته، ودفعه خياله الجامح إلى التفكير في مشروع تغيير لم تتضح معالمه، ونشط في تحشيد مناصرين له على الفضاء الإلكتروني يروجون "منجزاته". لكنه، طوال 30 شهراً، أغرق نفسه في تفصيلات ومناكفات لا تغني ولا تسمن، حتى إن بعض من صفّقوا له عندما تسنم المسؤولية الأولى في الدولة شرعوا يتخلّون عنه، واليأس يغالبهم، لكونه قد أحبط آمالهم في الانتقال إلى مرحلة جديدة.
في المقابل، لا يمكن نكران أنه اهتم بتحقيق "منجزات" ربما أفادت، أو حلت مشكلات صغيرة لمواطنين في هذا الحي أو ذاك، لكنها لم تغيّر، ولم تبشر بتغيير، وقد أعاد التذكير بمشاريع حيوية تلكأ تنفيذها 20 عاماً، كانت حكوماتٌ سابقةٌ قد أنفقت عليها مليارات الدولارات، ذهبت إلى جيوب "حيتان" كبار، لكنه لم يستطع ملاحقتهم، ربما لأنهم محميون بحكم القوانين والنظم التي شرّعوها لأنفسهم.
أعاد السوداني طرح أفكاره الإصلاحية، وعينه على ولاية ثانية تتيح له التجربة مرّة أخرى
يذكر له أيضاً أنه حاول تجاوز الخطوط الحمر التي رسمها المهيمنون على السلطة والمال والقرار، لكن خطأه أنه ظلّ يمسك العصا من الوسط، يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى، أقحم بلاده في وساطةٍ لا أرضت طهران، ولا أقنعت واشنطن، قبل أن تتكفل مسقط بإنجاز ما هو مطلوب، وحاول التصالح مع عمق العراق العربي، لكن "الأخوة الأعداء" كانوا له بالمرصاد يجهضون كل محاولة له في هذا الاتجاه. جرّب أن يحل مشكلة السلاح المنفلت، مقترباً بحذر من هيمنة "الحشد الشعبي" والمليشيات، إلى درجة أنه وافق على تمثيل مليشيات نافذة في حكومته، مثل مليشيا "العصائب"، وطرح حلولاً للمشكلة ثم سافر إلى طهران من أجل ذلك، لكنه رجع بخفّي حنين، إذ أبلغه المرشد الأعلى علي خامنئي أن عليه أن يعمل على "تعزيز دور الحشد الشعبي وتوسيعه"، وكانت هذه إشارة مبطنة لمليشيات بغداد بأن تشحذ أسلحتها ضدّه، وهذا ما جعله يتراجع عن اتخاذ القرار المطلوب.
إلى ذلك، اكتشف الحالمون بالتغيير أن "منجزات" السوداني وما يتصل بها لا يمكنها أن تبني دولة تكالب عليها اللصوص وقطّاع الطرق، ولا أن تؤهل مجتمعاً تحوّل أبناؤه إلى "رعايا"، ولم يعودوا مواطنين لهم حقوق ثابتة في الحياة والحرية والكرامة. ويبدو أن هذا لم يدفعه إلى الإقرار بفشله، إذ الملاحظ أنه أعاد طرح أفكاره الإصلاحية، وعينه على ولاية ثانية تتيح له التجربة مرّة أخرى، وشرع عملياً في تنشيط "تيار الفراتين" الذي يتزعمه تحت لافتة "جبهة مدنية داعمة للدولة تعمل على تعزيز سيادة القانون وهيبة الدولة"، محاولاً النأي بنفسه بعيداً عن "الإطار التنسيقي"، وساعياً لاستقطاب شخصيات تتوافق معه للدخول في المنافسة الانتخابية المقبلة.
تُرى، هل يستطيع السوداني أن يؤهل نفسه لولاية ثانية تمنحه الفرصة لقيادة حركة تغيير تنقذ البلاد والعباد من دون أن يواجه "الأخوة الأعداء" من وكلاء إيران، وحملة السلاح المنفلت، وناهبي المال العام مواجهة حاسمة ونهائية؟
لا نتصوّر ذلك، ولا نعتقد أنه قادر على الدخول في معركة كهذه، والأيام بيننا.