السلفية الجديدة في سورية
إحدى مثالب الثورة السورية أن السوريين، بعد سنوات من الاستبداد واحتكار النظام المجال العام، لم يمتلكوا سرديةً مشتركةً لمستقبلهم السياسي. صحيحٌ أنهم نادوا بالحرية والكرامة وغيرهما، لكنّهما بقيتا مفهومين مجرّدين من دون برنامج سياسي، مع توافقهم سريعاً على هدف ملموس تجسّد في إسقاط نظام الأسد. ولعلّ غياب تلك السردية حال (من بين عوامل أخرى) دون انتصار الثورة. وما إن انهار النظام فجأةً بتمرّد مسلّح لفصائل السلفية السورية الجهادية، حتى بدا أن فرصةً فريدةً تلوح أمام السوريين لتحويل المعاناة أساساً إلى مستقبل موحّد، ديمقراطي ومزدهر، ولبناء مجتمع يتغلّب على عقودٍ من القمع والصراع باستراتيجيات شاملة، مستنيرة، وتطلّعية. لكنّ الأيام اللاحقة أظهرت مدى الصعوبة التي يكابدها السوريون في فصل تصوراتهم (المدروسة والقائمة على الأدلة) بشأن المستقبل عن ردّات فعلهم العاطفية (الغريزية) تجاه القمع الماضي.
كان المأمول إرساء آليات عدالةٍ انتقاليةٍ تُركّز في المساءلة الفردية لا الجماعية، فتمنع شيطنة شرائح اجتماعية بكاملها، وأن تتحوّل الذكريات المؤلمة تصميماً جماعياً على بناء مُجتمعٍ يرفض إرث الماضي المُظلم. إلا أن المجازر الطائفية (المؤجّلة؟) بحقّ السوريين العلويين، وما رافقها من عنفٍ لفظي، ومحاولات تبريرها أو التقليل من شأنها، كشفت حالة الاستقطاب الحادّة التي استحكمت بالمجتمع السوري، والثمن الباهظ للتباطؤ في السير نحو العدالة الانتقالية. كان المفترض أن يقتضي الاعتراف بالجروح العميقة التي خلّفها عهد الأسد الإقرار بأن تاريخ الاستبداد لا يجب أن يُحدّد إمكانات الغد. كان مهمّاً أن يتذكّر السوريون المظالم، ولكن كان من المهم أيضاً النظر إليها دروساً لما يجب ألا يتكرّر أبداً، وكذا الاعتراف بحقائق الماضي من دون أن تتحوّل قيداً على المخيال السياسي. وقع السوريون في فخ العقلية الانفعالية، ما حال دون تحويل تجربتهم التزاماً بالإصلاح السلمي، فمشاعر الغضب إن كانت مشروعةً، فإن بناء مستقبل قائم عليها وحدها سيجلب مزيداً من دورات الانتقام.
حوارات اليوم الواحد، واللون الواحد، المبتورة زمنياً وتشاركياً، لم تكن في مصلحة حضور السردية السورية المشتركة، فحلّت في مكانها السيناريوهات الناجزة، وسرديةٌ ببعد أحادي، بل كرّست السلطوية الجديدة في سورية نوعاً من السلفية السورية تُبقي الذاكرة الجماعية مُركِّزةً في صدمات الماضي، فيكتفي السوريون بحاضرهم من دون الأسد، وكأن سقوط النظام هو نهاية المطاف الثوري، ويصبح حاضر الحدّ الأدنى جائزة كُبرى مقارنة بمأساة الماضي، وتغيب الحدود القصوى من تصوّرات المستقبل، بل تكرّس هذه السلفية السورية نوعاً من "العقل المستقيل"، يخاطبه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع (في مؤتمر الحوار الوطني في 25/2/2025) بقوله: "كما تقبّلتم منا هذا النصر فأرجو متكرّمين أن تقبلوا منا طرائقه".
يُمكن للماضي (بقصدٍ أو من دونه) أن يُبرّر التدابير الأمنية المُفرطة إذا ما صُوّرت ضماناتٍ ضدّ العودة إلى الفوضى، ويتيح للسلطوية مزيداً من تركيز السلطة من دون أن تخشى مواجهة مطالب شعبية قوية بالإصلاح. وبما أن الجريمة هي جريمة في حدّ ذاتها، لا بالنسبة إلى من ارتكبها، فإن تضمين الإعلان الدستوري بنداً يجرّم رموز نظام الأسد، وكلّ من يدافع عنه أو يبرّر جرائمه، لا يعني أكثر من الحفاظ على خطاب الضحية الجماعي، المتجذّر في معاناة الماضي، ما يساعد النظام الحالي في ترسيخ صورته حارساً للكرامة الوطنية، مهما تقاعس عن منع "هولوكوست" جديدٍ بحقّ سوريين.
للخروج من السلفية السورية الجديدة، يجب أن يتحوّل التركيز من الاندفاع العاطفي للردّ على قمع الماضي إلى التركيز في استراتيجية عقلانية وشاملة واستشرافية، لبناء مستقبل يحمي حياة جميع المواطنين وحقوقهم وكرامتهم، مستقبل يمكن التنبؤ به وليس إملاءه على السوريين.
وفي ذكرى ثورتهم (مُختلف عليها حتى)، لا يحتاج السوريون وروداً وشعاراتٍ رنّانة تهبط عليهم من السماء، بل ينتظرون أن تزهر هذه الورود في تربتهم، وأن تتجسّد تلك الشعارات في واقعهم.