السؤال... فعل تحرّر
لماذا نسأل؟... السؤال هو أول همسة أطلقها العقل البشري في ظلام الجهل، والخطوة الأولى في رحلة الاكتشاف الطويلة التي صنعت الحضارات، وأطلقت العقول نحو آفاق غير محدودة.
منذ اللحظة التي رفع فيها الإنسان عينيه إلى السماء متسائلاً عن النجوم، أو تساءل عن سرّ الحياة والموت، بدأ وعيه بالتشكّل، وأصبح السؤال أداةً لفهم العالم وكشف أسراره. فالتساؤل ليس مجرّد فضول عابر، بل هو محرّك التطور، ووقود الفكر، ونقطة التحوّل التي تجعل العقل ينتقل من حالة السكون إلى حالة البحث الدائم عن الحقيقة.
كلّ فكرة عظيمة وُلدت من سؤال، وكلّ تغيير بدأ بتساؤل جريء. حينما سأل الفلاسفة الأوائل: "ما الحقيقة؟" و"ما معنى الوجود؟"، فتحوا أبواب التأمّل الفلسفي، الذي لا يزال مستمرّاً. وحينما تساءل العلماء عن طبيعة الكون، وعن أسباب المرض، وعن كيفية تطوّر الحياة، رسموا الطريق أمام تقدّم العلم وازدهار البشرية. بل إنّ أبسط الأسئلة، تلك التي تبدو بديهيةً أو طفوليةً، قد تكون في جوهرها أعظم الأسئلة، لأنها تُطرح من دون قيود، وتحمل في داخلها دهشة الاكتشاف الأولى.
لكنّ السؤال ليس مجرّد أداة علمية أو فلسفية، بل انعكاس لروح الإنسان الباحثة عن المعنى. منذ الطفولة، يبدأ الإنسان رحلته مع التساؤل، يسأل عن كلّ شيء، يحاول فهم العالم من حوله بأسئلة تبدو للكبار ساذجةً، لكنّها في الحقيقة تعكس جوهر الفضول البشري. ثمّ يكبر بعضنا ويتوقّف عن السؤال، ليس لأن الأجوبة قد اكتملت، بل لأن المجتمع يفرض عليه قيوداً تجعله يظنّ أن السؤال دليل على الجهل، أو أن البحث عن الحقيقة ترفٌ لا يحتاجه من اعتاد على قبول الواقع كما هو. وهنا يكمن الخطر الأكبر، فالمجتمعات التي تكفّ عن التساؤل تدخل في سبات طويل، وتعيش في ظلال الجهل، حتى وإن بدت متقدّمة ظاهرياً.
والأسئلة ليست مجرّد أدوات لفهم العالم، بل هي أيضاً وسائل لفهم الذات. حين يسأل المرء نفسه: من أنا، وما الذي أريده من هذه الحياة؟"، فإنه يبدأ رحلةً داخليةً قد تكون أشدّ تعقيداً من أيّ بحث علمي. إن أعظم الرحلات ليست تلك التي يخوضها الإنسان في الفضاء أو عبر المحيطات، بل تلك التي يخوضها في أعماق ذاته، حيث يواجه شكوكه، ويتحدّى يقيناته، ويعيد اكتشاف نفسه من جديد. فالأسئلة التي نطرحها على أنفسنا ليست أقلّ أهميةً من تلك التي نطرحها على الكون، بل ربّما تكون أكثر تأثيراً، لأنها تحدّد مسار حياتنا وتساعدنا في اتخاذ قراراتنا الكُبرى.
لكنّ السؤال ليس مجرّد بحث عن إجابة، بل هو في حدّ ذاته فعلُ تحرر. إنه إعلان صريح بأن الإنسان لا يقبل المسلّمات من دون تمحيص، وبأنه يرفض أن يكون مجرّد تابع لما هو موجود. فكلّ تغيير في التاريخ بدأ بسؤال، وكلّ ثورة فكرية انطلقت من رفض يقين سابق، وكلّ تطوّر حضاري كان نتيجةً لتحدّي السائد والبحث عن الجديد. في هذا المعنى، السؤال ليس مجرّد أداة معرفية، بل هو موقف وجودي، واختيار للحرّية الفكرية في مواجهة التقليد الأعمى.
ومع ذلك، لا يمكن للسؤال وحده أن يكون كافياً، بل لا بد أن يقترن بالبحث الدؤوب والشغف بالحقيقة. فالعقول العظيمة لا تكتفي بطرح الأسئلة، بل تسعى خلف الأجوبة، وتتقبل عدم اليقين جزءاً من الرحلة. وفي بعض الأحيان، تكون قيمة السؤال أكبر من قيمة الجواب، لأن بعض الأسئلة لا تحتاج إلى إجابات حاسمة، بل يكفي أنها تجعل الإنسان يستمرّ في التفكير، وتفتح له أبواباً جديدة لم يكن يدرك وجودها من قبل.
السؤال هو ما يجعل الإنسان إنساناً، هو الفارق بين العقل الساكن والعقل الحي، بين الحضارات التي تزدهر، وتلك التي تتآكل، بين من يقبل الأشياء كما هي، ومن يسعى إلى تغييرها. فليكن السؤال جزءاً من وعينا الدائم، ولنتعلم كيف نسأل، لا خوفاً من الجهل، بل حباً في المعرفة، لأن كلّ إجابة نصل إليها ليست إلا بدايةً لسؤال جديد، وكلّ سؤال جديد هو خطوة أخرى نحو فهم أعمق للحياة والكون والذات.