الزنزانة المجاورة

08 مايو 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لا يُعرَف رئيس عربي علا وارتفع مثل حافظ الأسد، وليس بدعاً القول إنه صارت له (بحركته التصحيحية) قوة شعبه القوي العزيز، وقوّة بلاده من ثروات، وقوة الجغرافيا السورية وتاريخها العظيم، وأرض سورية قَبْضَتُهُ، يسبّح له المطربون والممثلون، وركّالو الكرة، والعلماء، والمنشدون الدينيون، الذين يحتفلون في ليلة الإسراء والمعراج بمعراجه من القرداحة إلى الحكم إضماراً، ويحتفلون في عيد المولد النبوي بمدح الرئيس، تسبح الحجارة بحمده؛ فلا يخلو جدار من صوره، ويسبّح الشعب من خيفته، وله كثير من الجند والزبانية. وزعمت إحصائية أنه كان لكلّ 53 سورياً مخبر في عهد الأب الميمون (أسقطْ منهم الأطفال والنساء والكهول والبدو يتحصّل لكلّ ثلاثة مخبر)، أمّا الناشط فله فريق من المراقبين عن اليمين وعن الشمال عزين.

اتخذ الرئيس جنّة لأتباعه (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، أمّا الجحيم فلمرتكبي الكبائر والصغائر، وهذا ليس بدعاً من القول، ذكرت ذلك شهادات الناجين من الموت، إما منّاً وإمّا فداء، ولم تضع الحرب أوزارها في عهده قط، ولم يكن يعفو، فإن فعل، فالمعفو عنه بشفاعات دولية، مثل رياض الترك، محروم من حقوقه المدنية. وجاء تشبيه المعتقل السوري الأسدي بالجحيم، في أكثر من شهادة، فالمعتقلون السوريون المشركون بالرئيس شركاً أصغر، والشرك أخفى من دبيب النمل، في الجحيم، وشهيرة عبارة علي دوبا، أنّ الرئيس قال له: "اعتقلوا من تشاؤون، أمّا تحرير رقابهم فلي". ومعتقلاته كثيرة، وهي تقول: "هل مِن مزيد؟"، وله معتقلات في وسط البلاد حبّاً بالرعية، وأخرى في الصحراء، عزلاً لها ووقاية من عين الحسد، وكنت أتجنّب المشي قريباً من الأولى كأني أستشعر قوله تعالى: "إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا".

ومن الاقتباسات الأسدية من عذاب الله للمشركين به السلسلة، أو "الجنزير"، يقاد فيها المجرم المعارض إلى المحاكم، أو إلى التحقيق "إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ"، وإن دعي إليها مقرناً بالأصفاد، فبرقمه، وليس باسمه، إذلالاً له "يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا"، ولا يُقاد المعتقل إلا عارياً كيوم ولدته أمه "يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا"، وأعمى معصوباً "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا"، "وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ".

وكان الأسد يفضل التجويع، فالتجويع نار تسلُّ اللحم عن العظم. وأول العذاب هو التضييق "وإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)، عشرة في زنزانة مخصّصة لفرد، يحلم بالوقوف على قدمين، فالنوم أمنية، أما عقوبة الجلد، فيومية، بعد التشبيح، "سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا"، ولم أقرأ عن مكبس في الجحيم، أو عن التذويب بالأحماض والملح، ولا يستطيع المعتقل تكليم سيّده، ولا أهله، فهو في برزخ، حال الرئيس: "قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ"، وفي جهنّم يؤخذ المجرم بجريرته وذنبه، وليس بذنب أخيه أو قريبه أو ابن عشيرته، أو رهينة.

روت شهادة أنهم كانوا يعالجون بعض المعتقلين لمكانهم ومنزلتهم، "كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ليدوقوا الْعَذَابَ". يحلم المعتقل بالموت ولا يستطيله "وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ"، ومن العذاب؛ تسليط الهوام والجرب عليهم، "هَذَا فليذوقوه حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ". اختص الله تعالى لنفسه التعذيب بالنار، وقد صبَّ الأسد الابن نار البراميل على مدن الثائرين بأطفالها ونسائها وشيوخها وبهائمها ومشافيها وأسواقها!

أقسى ما قالته شهادات الناجين، أنّ أشد الآلام في جحيم الأسد سماع أنين طفل أو صراخ امرأة تعذب، أو تغتصب في الزنزانة المجاورة، وهو ما نسمعه من غزّة، الزنزانة المجاورة، ونحن نستلقي في زنزاناتنا الفاخرة.

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر