الزلزالُ السوريّ الأقسى لعام 2025
(محمد عمران)
لا يخفى على أحدٍ أنّ فنَّ اللعب على التناقضات الطائفية، وما ترتّب عليها من فشل أخلاقي (خاصة إبّان الثورة السورية)، كان من أهم أسباب صمود نظام الأسد، وتفتّق ذلك عن أشدّ أزمات المجتمع السوري خطورة، إنتاج هُويَّاتٍ فرعيةٍ خامدةٍ ستندلع شرارتها متى يتوافر فراغٌ سياسي وأمني ملائم. وواضحٌ أنّ الانفجارَ الطائفي اليوم هو القاعدة وليس الاستثناء لسقوط الأسد، فها هي فيديوهات التحريض تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما أبرزها التي يصرخ فيها شخص ينتمي للأكثرية في وجه آخر "أقلوي" يدعو إلى التسامي على الجراح: "ما الذي يُجبرني على العيش معك وقد باتت القوة في أيدينا؟". وفي سياق تفصيل ذلك، وقريباً من الإدراك الحيوي والعقلاني للوقائع الراهنة، يبدو هذا كلّه مُتوقَّعاً في بلدٍ لم يحظَ السوريون فيه بفرصةٍ زمنيةٍ كافيةٍ لبناء هُويَّةٍ وطنيةٍ خالصةٍ بعد الاستقلال. فبدايةً، جاءت نكبة فلسطين لتتسيّد صدارة الأولويات العربية، ثمّ الارتدادات الكارثية التي آلت إليها الانقلابات العسكرية، ففشل الوحدة السورية المصرية، وبلغ التأزّم مداه إثر انغماس السوريين في كوارث "البعث"، ليفقدوا طهرانيتهم بكلّ ما سيعتري كيانهم الطريّ لاحقاً من اختلالاتٍ وإكراهات... هذه المخاضات العسيرة جعلت من حكم الأسد الولي الأكبر لشعبٍ بلا هُويَّة ناجزة، سيتحوّل تباعاً أقواماً متفرّقةً تفصل بينها جدرانٌ شاهقةٌ من المظلوميات والأحقاد مسجونةً في مزرعةٍ يديرها لصوصٌ رعاعٌ باسم الأيديولوجيا القومية، عبر علاقات مشبوهة من الإكراه على العيش المشترك.
مغرٍ النقاشَ في أهمية إسقاط الطائفية بعد إسقاط سلطةٍ فاشيّة لها السبق في تطييف الثورة واستثمار عنفها بعد تحوّلها إلى العسكرة
ونظراً إلى التحدّيات واختلاف مستوياتها، وتنوّعها بين الذاتي والموضوعي، يبقى التسليم بالواقع الحالي نوعاً من الإفلاس الهُويَّاتي البيّن، يفتّح الأذهان على أسئلة مصيرية كُبرى وسط البحث عن المشتركات المتبقّية بين السوريين وإبراز قيمتها، وهي ليست مجرّد ترفٍ نظريٍّ أو سجالاتٍ فارغة، إنّما جُهد يُثمَّن لإعادة تخليق الحامل الوطني للسوريين، واعتبار الهُويَّة الدينية هُويَّةً صُغرى تشكّل فضاءً معرفياً مضافاً، تجنّباً لتبنّي العنف الطائفي خياراً للتغيير السياسي.
ممّا تقدّم من معطياتٍ مهّدت لصحوةٍ طائفية لا نظير لها في سورية تاريخياً، يتأكّد أنه لا يمكن استيعاب إشكالية "انتقائية التعاطف" من محسوبين على "الأكثرية"، وعدم استجابتهم لمجازر العلويين بعيداً من التحوّلات الأيديولوجية والهُويّاتية المُستظلَّة براية المظلومية "السُّنية"، التي أنتجتها ممارسات حكم الأسد بالمعنى السياسي الاستبدادي، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ على دخول السوريين في تيهٍ مظلم يصعب الخروج منه، وسط محاولاتٍ لإعلاء خطاب "الشعب السوري واحد"، ليس حالةً عيانيّةً مجسّدة، بل استجابةً واقعيةً حتميةً، خاصّة أنّ هذا الشعار الأثير تجلّى بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، حين ناضل المسلم والمسيحي والكردي معاً لتحرير سورية من المستعمرّ الفرنسي، بعيداً من أيّ فتنةٍ طائفيةٍ أو نزعةٍ انفصالية، حتى تمكّن حافظ الأسد "العلوي" نفسه من الوصول إلى الحكم. وللمفارقة، تغدو الهُويَّة الوطنية الجامعة أبرز ضحاياه. لذا من الطبيعي أن يتطوّر خلافٌ بسيط بين شخصَين ينتميان إلى طائفتَين مختلفتَين صداماً أهلياً مريراً قد ينتهي بحمّام دمٍ بسبب التحريض الممنهج. خذ مثالاً ما حصل في أشرفية صحنايا بين الدروز وعشائر من دير الزور، ولحسن الحظّ تدخّل العقلاء وجرى احتواء الخلاف.
هذا العبث الممنهج، وقوامه إحياء الهُويَّات الجزئية التي تدغدغ المشاعر الدينية لحشد مزيد من التأييد والمشروعية، يطرح سؤالاً ملحّاً عن إمكانية إحياء الهُويَّة السورية، وقد أتت سياسةُ نظام الأسد الطائفية الخبيثة أُكلها مع اضمحلال مفهوم الدولة وانحسار حقلها. في السياق، يؤكّد مستشار الأمن القومي الأميركي خلال رئاسة جيمي كارتر، زبيغنيو بريجينسكي، أنّ أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والشعوب هي تعميق الانقسام المذهبي والعرقي، من خلال تمكين طائفةٍ بعينها ودعمها لقهر بقية المكوّنات. بالتالي، يمكن القول إنّ تركة الأسد الثقيلة بالتوازي مع سطوة الفصائل الإسلامية المتشدّدة، وتشابك الملفّات الدولية والإقليميّة، تدفع السوريين إلى تبنّي تعريفات خاصّة بهم بهدف حماية أنفسهم. وقد حدث هذا الانسحاب الطائفي أيضاً على ضفة المؤيّدين أيّام حكم الأسد، وهو تقوقعٌ محمولٌ على سياساتٍ تمييزيّة تثير عصبيات فرعية ما قبل وطنية. في المقابل، لا يبدو أنّ النخب السورية بعمومها، وعلى الرغم من فداحة المشهد العام، تقوم بمراجعة إسعافية لاحتواء التحدّيات التي يطرحها الواقع المأزوم الأشد استعصاءً، وفيه يتحوّل منشورٌ "فيسبوكيّ" تافه إلى ساحة احترابٍ همجيٍّ مرفقة بالتخوين والاتهامات، ليُكفَّر شخص وتُنزع من آخر هُويَّته السورية لأتفه الأسباب، فلا شكّ في أنّ سورية تعاني من أنيميا حادّة في الانتماء، وعلى خلفية ذلك، لنستحضر حادثة شهيرة تختصر ما سبق، ففي 2021 شهدت مباراة لكرّة السلة بين منتخبَي سورية وكازاخستان، ضمن تصفيات كأس العالم، حادثةً مثيرة للجدل، وهي عزف النشيد الإيراني بدلاً من السوري، ولم يُبدِ اللاعبون السوريون لحظتها أيّ اعتراض أو استغراب، باستثناء واحد (!).
على أيّ حال، لطالما أُثيرت شرارات طائفية بدت ظواهرَ مارقةً أمكن ضبط تداعياتها، هي نفسها اليوم تغدو أكثر استفزازاً وحضوراً. فمثلاً، تبرُز ظاهرة "التكويع" واحدةً من أبرز مخرجات تشوّه الهُويَّة السورية الجامعة المفقودة حالياً، أو هي، في أقلّ تقدير، بأسوأ حال مع استمرار دعوات التحريض الطائفي الممنهجة ضدّ "الأقلّيات"، بينما يحتاج الخلاص إلى عمل سوريّ موحّد تجنّباً للانجرار وراء أيّ هُويَّة فرعية. لذا قد يبدو مغرياً، وبلغةٍ تختلط فيها المشاعر بالبلاغة السياسية، النقاشَ في أهمية إسقاط الطائفية بعد إسقاط سلطةٍ فاشيّة لها السبق في تطييف الثورة واستثمار عنفها بعد تحوّلها إلى العسكرة، حتى أنّ بعض النُخب العلمانية الأكثر انفتاحاً قبلت الأسلمة ردّاً على نظامٍ رسّخ مصطلح اللوحة الفسيفسائية (المثيرة للسخرية) من دون الخوض في تفاصيلها، نوعاً من الالتفاف السياسي على جوهر المشكلة، ودفعَ باتجاه صراعٍ مكبوتٍ انفجر عندما رُفِع الضغط عنه، استجابة لكثير من المفاهيم السياسية المؤسَّسة على مرجعيات طائفية بحتة.
البحث عن المشتركات المتبقّية بين السوريين ليست مجرّد ترف نظري، إنّما جُهد لإعادة تخليق الحامل الوطني للسوريين
ضربَ سورية، في 6 فبراير/ شباط 2023، زلزال مدمّر طرحَ أسئلةً وجوديةً شائكة، ولم يملك السوريون آنذاك رفاهية الوقت للبحث عن إجابات ليقينهم المطلق أنهم سيُتركون وحدهم في مهبّ الريح، فسارعوا ينظّمون أنفسهم بعيداً من منطق الاصطفاف الطائفي لاحتواء الكارثة، واعتبر حراكهم محطّةً لاستعادة جاذبية الخيار الوطني، الذي فقدَ كثيراً من قوته وثقله، حينها وصلت شاحنات مساعدات إنسانية إلى مدينة جبلة الساحلية قادمةً من قلب إدلب. واليوم يأخذ سوريون وضعية المزهرية بينما تتعرّض البلاد لزلزالٍ أشدّ قوة وتدميراً، وهو الفوضى العدمية المتمخّضة عن السقوط المفاجئ لنظامٍ قمعي احترف في عملية ضبط المصطلحات الطائفية لمصلحته، محوّلاً البلاد جمهوريةَ رعبٍ منزوعة المواطنة، أفقدت الهُويَّة السورية حمولتها الوطنية كلّها، في استعراضٍ مسرحيّ مبتذل للتخوين والمزايدة والانتقام.
نافل القول، نفذت مليشيات موالية لنظام الأسد عمليات إبادة جماعية بحقّ السنّة خلال الثورة، واليوم تستعيد المجازر حضورها في قرى الساحل العلوية، وما زال السوريون (في الحالتَين) يتخندقون داخل أوكارهم الطائفية، يصمّون آذانهم عن ارتدادات الزلزال الذي يبتلع البلاد. وعليه، لنتفق: إذا لم يجمعهم طفل بانياس الذي ربط سرواله بحزامٍ قماشي لشدّة فقره، والذي قُتل في مجزرة حرف بنمرة، وبغضّ النظر عن دينه، فلا يمكن أن يجمعهم أيّ شيء آخر.