الريف والصحراء‮... حديث الحرب بين المغرب والجزائر‬‬‬

03 ديسمبر 2024
+ الخط -

الصورة التي عمّمها التلفزيون المنسوب إلى "الجمهورية الصحراوية"، الموجود مقرّها فوق التراب الجزائري، باستضافة ما يسمّى "الحزب الوطني الريفي"، الذي يدعو إلى انفصال شمال المغرب عن باقي التراب الوطني، وصورة تنظيم الدورة الأولى من "يوم الريف" في العاصمة الجزائرية واحتضان التلفزيون العمومي له، تعكسان سلوكاً مفكّرا فيه، عن وجود "توأمة" انفصالية بين شمال المغرب وجنوبه، كما لا يمكن فصلهما عن أجواء التصعيد الحربي الذي تعيش المنطقة على أجوائه، سيما باستحضار ما قاله وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أمام البرلمان في الأسبوع الثاني من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني).

وقد كان واضحا أن مثول الوزير أمام البرلمان لم يكن عادياً، حيث صرح، بواضح العبارات، "أن الجزائر تخطّط لمواجهة عسكرية مع المغرب"، وهذه، في اعتقاد كاتب هاته السطور، "جملة لا شك أنها ستدخل التاريخ، لا تاريخ البرلمان وحده، ولا تاريخ التصريحات الديبلوماسية فقط، بل تاريخ البلاد برمتها"... كانت العبارة صدى لعبارات سابقة عليها عن الحرب. أولها ما قاله الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، قبل إعادة انتخابه، في مقابلة مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية، نشرتها يوم 30 ديسمبر/ كانون الأول 2022 أن "قطع العلاقات مع المغرب كان بديلا للحرب معه، والوساطة غير ممكنة بيننا".

لا تجد صورة الاحتضان المتبادل بين الانفصاليين (المهمّشين واقعيا) في الريف والانفصاليين البوليساريو، نصف قرن في الجنوب، تبريرها في التصعيد الدبلوماسي الذي عرفته الآونة الأخيرة بين البلدين المغاربيين، ولا في فشل اليد الممدودة من العاهل المغربي، بل تعود إلى ما هو أبعد في نظر عديدين متابعين ومهتمين بمآلات المغرب الكبير ومتوجسين من شبح الحرب..

استهداف الريف في المغرب، في جانب من جوانبه، يمس عملية تأهيل تاريخية واقتصادية عرفتها المنطقة، بكل جراحات الماضي

وإذا كان المغرب الرسمي لم يتعاط مع هذا التحرّك بأي نوع من الهجومية، فذلك لم يمنع وزير خارجية المغرب من أن يطرح احتمالية الحرب بين المغرب والجزائر، كما اتّضح من المغرب الشعبي والسياسي لا يستبعد الاحتمال، من خلال الهجومية التي يرفعها إلى مرتبة العدوانية في التعامل مع قضايا وحدته الترابية (الدعوات إلى التمرّد على الملكية وإسقاطها، الدعوات إلى الهجمات من داخل التراب المغربي، طرد من تبقوا من المغاربة، ...). وهناك من ربط في التحليل بين تصريحات مندوب المغرب في الأمم المتحدة عمر هلال والوزير بوريطة في المحافل الدولية، وخصوصا بمناسبة مناقشات قضية الصحراء أمام مجلس الأمن في أكتوبر/ تشرين الأول وإبريل/ نيسان من كل سنة، وأمام اللجنة الرابعة، تصريحات حول منطقة القبائل في الجزائر والدعوة إلى تقرير المصير لصالحها، وهو موضوع له تبعاته. وفي الحقيقة، هاته المتوالية الانفصالية هي مسلسل حربي بامتياز، قد ينتقل إلى المواجهات الدامية في أي لحظة، قبل أن تسعى القوى الداعمة المواجهة إلى محاولة ترويج وضع اجتماعي وهوياتي ـ تاريخي خصب لاستنبات الفكرة الانفصالية.

غير أن المسألة تعود إلى ما قبل الملاسنات الأممية، وأبعد من الشروط الاجتماعية التي تعرفها المنطقة ونزعتها القوية في إظهار طاقتها النضالية وقوتها في صناعة الحركات الاحتجاجية، المختومة بوعيها الوحدوي، حيث لا يغيب عن الأذهان أن "التوأمة الانفصالية" ظلت حاضرة في أجندة الصراع السياسي منذ ما يزيد عن 94 سنة. وقد قيّض لكاتب هاته السطور العودة إلى وثيقة يعود تاريخها إلى سنة 5791، بموازاة مع قرارات محكمة العدل الدولية وقرار المغرب تنظيم المسيرة الخضراء إلى إقليمه الجنوبي، وثيقة كشفتها مجموعة من جماعة بوليساريو كانت تسمّى "مجموعة لكورية" سلمتها إلى أمين عام الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، كورت فالدهايم، عن تنسيق بين جزائر هواري بومدين وإسبانيا الجنرال فرانكو بخصوص تنسيق مشترك تتولى فيه الجزائر التي أعلنت معارضتها استرجاع المغرب ترابه الصحراوي، "القيام بكل الإعمال الإلهائية" في الشمال، في حال وجدت القوات الاسبانية نفسها في حرج في الجنوب (الصحراء). وهو ما دفع عديدين إلى اعتبار "التوأمة الجديدة" في 4202 إحياء لهاته الاتفاقية، في سياق سياسي مغاير للغاية، طابعه الأساسي مساندة إسبانيا الحالية المغرب في ترابه الصحراوي، وخروجها بموقف لجانبه يجعل الوضع في الصحراء محسوماً أكثر لفائدة المغاربة. 

ومن هنا شرعية السؤال: هل التوأمة الراهنة محاولة أخيرة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه مع الإبقاء على درجة التوتّر نفسها شمالاً وجنوباً، أو هي عملية استبْدالية، يُعوِّض فيه التحرّكُ شمالاً انحسارَ أطروحة بوليساريو في الانفصال جنوبا؟

استهداف الريف هو، في جانب من جوانبه، يمس عملية تأهيل تاريخية واقتصادية عرفتها المنطقة، بكل جراحات الماضي. 

للريف كجغرافيا متوسطية‮ مكانته في‮ ‬التراب الوطني المغربي،‮ ‬كما له رمزيات تاريخية ‬تتقاطع مع ضرورته الجيوسياسية‮ ‬والجيواقتصادية حاليا‮ً

وإذا كانت إرادة تنشيط التوتر بين الريف والدولة لم تستقطب أياً من المثقفين والسياسيين وعموم الريفيين، الجدّيين والوازنين، من المنطقة، فإن الإرادة في دقّ إسفين بين القرار السياسي والمنطقة ليست غريبة ولا بعيدة، بعد كل الذي حصل، وملخصة التالي: حرص العهد الجديد في المغرب أن يجعل من الريف (شمال)، النموذج المجالي للمصالحة التي قادها الملك محمد السادس مع التاريخ واللغة والبؤر الانفجارية في المجتمع. بل يمكن القول، مع كتابات عديدة رزينة وتاريخية إنه ارتقى به إلى "تراب مفضل"، "واصطفاه" ليكون وضعه الاعتباري الجديد عنواناً لتصالح كبير بين الدولة، وفاعلها المركزي، وعموم الكيان المغربي مجتمعا وثقافات وذاكرة سياسية.

بدون العودة إلى تلكم التفاصيل التي صارت نموذجاً في تدبير الانتقالات نحو الديمقراطية والعدالة والانتقالات المتعدّدة. يمكن القول إن مسار الانتقاء المرتبط بالريف تجسّد كثيرا في جعله المكان الأكثر رمزية في إبراز هذا الطابع الانتقائي. من حيث إن الملك الجديد جعله فضاء لحفل "البيعة"، المرتبطة بجوهر الوجود الشرعي للملكية، والنظام السياسي برمّته، علاوة علي أنها الحزام الرمزي والديني للحدود الترابية، فالحفل الذي يتم كل نهاية يوليو/ تموز من كل سنة، شهد أكبر عدد من فصوله، أكبر من غيره من مدن المغرب ومناطقه، كما أن المراحل الحرجة نفسها التي عاشها المغرب، في 1102 مع الربيع العربي، ثم داخليا مع حراك الريف 7102، لم تمنع الملك الجديد من اختيار الريف، من خلال تطوان وطنجة، من الحفاظ على هذه الأفضلية الإرادية الانتقائية عنواناً من عناوين الدولة ـ الأمة الجديدة. ولعل كثيرين (أبرز مثال على هذا كتاب محمد الطوزي "مخيال الدولة في العهد النيوليبرالي") رأوا في ذلك إعادة الاعتبار لمنطقةٍ ظلت محط عنف أو تهميش من نظام الملك الراحل. ورأوا في التنقلات الملكية وحفل البيعة قرباً جسدياً مع منطقة بهذا التاريخ المثقل، منذ حرب الريف أيام أنوال 1291 ووصولا إلى تمرّد بداية استقلال 8591 الذي تعرّض لعنف كبير.

وللريف كجغرافيا متوسطية مكانته في التراب الوطني، كما له رمزيات تاريخية تتقاطع مع ضرورته الجيوسياسية والجيواقتصادية حالياً، والتي دفعت باتجاه هاته المصالحة العمدية من الملك محمد السادس. وفي هذه المقاربة المعتمدة، لا يكون الريف بنية ترابية "ما تحت وطنية"، بقدر ما هو فرصة للتاريخ والسوسيولوجيا والسياسة لبناء لحظة عالية الدلالة.

‬لا‮ ‬يغيب عن الأذهان أن‮ "التوأمة الانفصالية‮" ‬ظلت حاضرة في‮ ‬أجندة الصراع السياسي‮ بين المغرب والجزائر ‬منذ ما‮ ‬يزيد عن‮ ‬94‮ ‬سنة

والريف، بمعنى من المعاني، هو المكان المفضل للمشاريع التي ترمز إلى العهد الجديد، من خلال احتضان ميناء طنجة المتوسّط، بما هو مشروع بدأ في تزامنٍ دالّ مع مسلسل المصالحة وطي صفحة الماضي (2002)، اكتسى دلالة كذلكم من خلال عاصمته طنجة الدولية، والمرجع الآمن للوطنية المغربية، والمنبر الجغرافي لمحمد الخامس لخطاب المطالبة بالاستقلال والوحدة الوطنية على وجه الخصوص. ومن خلال ميناء طنجة المتوسّط، صارت الحسيمة، عاصمة الريف الدائمة، جزءاً من التراب الجهوي للشمال الموسّع، علاوة على أن الريف، بهذا التعريف الترابي الإداري، هو باب المغرب الشمالي.

لعل الاستهداف يطاول كل هاته الرمزيات وهاته المرتكزات، تمامآ كما كان استهداف الصحراء مرتكزاً الصحراء في صناعة الدولة (ببعديها، الامبراطوري الذاهب نحو العمق الأفريقي وبعد الدولة الأمة، المستقلة تاريخيّا)، على أساس أن المغرب "دولة صحراوية"، ومن جنوب المغرب انبثقت دول كثيرة تعاقبت على حكم البلاد، ما حدا كثيرين من نخب المعارضة والحكم إلى اعتبار أن "الإنصاف التاريخي كان يقتضي أن يلتحق المغرب بالصحراء"، وليس عودتها إلى حضن الوحدة الوطنية فقط. (قناعة اجتمع حولها مناضل وقيادي يساري شرس وشهيد هو عمر بنجلون، والملك الراحل الحسن الثاني...)، وهي حكمة تطلّ دوماً لتفسّر جزءاً من هاته الوطنية المتشددة في وحدة التراب. وتفسّر كذلك قوة التضادّ مع الجيران.

ومن كل ما سبق، يبدو أن توفير شروط المواجهات المسلحة ليس تمريناً إعلامياً أو ترتيباً بروتوكوليا، يقتضيه تنفيس التوتّر، بل هو تراكم حقائق تتراكم مثل السُّحب في المنطقة. 

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.